لندن: لم يكن المصير المحدد سلفًا جزءًا من منظومة معتقدات الفيزيائي ستيفن هوكينغ. وكانت مصادفة محضة أن يولد بعد 300 عام بالتمام والكمال على وفاة غاليليو. لكنه كان يشترك معه بشيء آخر إلى جانب كونه فيزيائيًا كبيرًا؛ إذ اشتهر هوكينغ بسبب معاناته بقدر ما اشتهر بسبب علمه الفيزيائي. لكن سبب معاناته لم يكن سياسيين كنسيين يفضلون الطاعة على حرية البحث والاستقصاء بل داء التصلب الجانبي الضموري الذي يصيب العضلات. يعني هذا أنه كان عليه هو أيضًا أن يكافح من أجل إسماع صوته.

أطال النظر في الكون

لم تكن تعوز هوكينغ في شبابه الثقة قط. وذات مرة، قاطع الفيزيائي الفلكي الكبير فريد هويل في وسط محاضرته لتصويبه بشأن كتلة الجسيمات. لكن، عندما أصبح عاجزًا عن كتابة المعادلات، تعين أن تُترجم النظريات إلى هندسة في رأسه.

تناقصت قدرته على النطق حيث بات عليه أن يطيل النظر في الكون ليحدد الاشياء التي يريد أن يقولها عنه ويعيد تحديدها قدر الامكان. وظهرت نظريته لكل شيء بصوت كان آليًا ومفعمًا بالعاطفة في وقت واحد. كتبه أيضًا أوصلت علمه إلى الانسان البسيط. وبيع من كتابه "تاريخ موجز للزمن" الصادر في عام 1988 ملايين النسخ. كان كتابه الآخر "تاريخ أكثر إيجازًا" الصادر في عام 2005 يطرح الموضوع نفسه لكن بوضوح أكبر، على الأقل بنظره هو.

كان يأمل بأن يفهمه القراء لأن من المهم أن يشرح العلماء ما يفعلونه. في كلا الكتابين والعديد من الأعمال الأخرى، أعلن هوكينغ أن قوانين العلم تفسر كل شيء من دون الحاجة إلى إقحام الله في الأمر. على سبيل المثال، إذا فُهمت نظرية الأوتار أو النظرية الخيطية وأبعادها الأحد عشر فانها يمكن أن تبين كيف بدأ الكون.

حل المعضلة

في خلال عمل هوكينغ اليومي استاذًا للرياضيات في جامعة كامبردج حتى تقاعده في عام 2009، كانت الثقوب السوداء اختصاصه.

الثقوب السوداء التي توقعتها الرياضيات قبل اكتشافها في الطبيعة ظواهر متفردة، نقاط لا تسري عليها قوانين الفيزياء المعروفة. لكن الثقب الأسود محاط بسطح يُسمى أُفق الحدث. وأي شيء يعبر أُفق الحدث يُلتهم إلى الأبد.

كات هذه مشكلة. فإن القانون الثاني للديناميكا الحرارية يقول إن الإنتروبيا التي تمثل شكلًا من أشكال اللانظام في المنظومة المغلقة لا تنقص، بل تزداد دائمًا على اساس أن الطاقة تتحول من شكل إلى آخر لكنها لا تُفنى.

حل هوكينغ هذه المعضلة بالبرهنة على أن للثقوب السوداء نفسها إنتروبيا، وكلما زاد ما تلتهمه زادت إنتروبيتها. يعني هذا بدوره أن للثقوب السوداء درجة حرارة، وبالتالي لها إشعاع ينبعث منها سُمي "إشعاع هوكينغ" الذي فوجئ به صاحبه مثل سائر العلماء الآخرين.

قال هوكينغ إنه اكتشفه بالصدفة وهذا يزعجه. لم يرُصد الإشعاع في زمن حياته، ولهذا السبب لم يُمنح جائزة نوبل. لكن العلاقة التي أقامها بين النظرية النسبية وميكانيك الكم والديناميكا الحرارية كانت مادة غنية لمخيلة الفيزيائيين.

متعة كبيرة

اهتمامه بظواهر التفرد لم يقتصر على الثقوب السوداء. فالكون نفسه يمكن أن يعتبر تفردًا وإن كان البشر ينظرون فيه من الداخل وليس من الخارج. كان شديد الاهتمام بنشوئه وبأصل الزمن نفسه.

لشرح المفهوم القائل بعدم وجود زمان أو مكان قبل الإنفجار الكبير، قارن هوكينغ ذلك بالسؤال عما يوجد جنوب القطب الجنوبي. كان يجد متعة كبيرة في هذه الاسئلة التي لا توجد إجابة عنها وربما تتعذر الإجابة عنها. عندما كانت إاعاقته تمنعه من مواكبة النقاشات، كان سعيدًا بالعودة إلى التفكير فيها مجددًا.

في هذه الأثناء، يستمر ابتعاد الواقع العلمي عن الاعتقادات الشائعة، مثلما كان الاعتقاد الشائع أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. وفي حين أن هذا لم يعد يهدد المؤسسات السياسية كما في زمن غاليليو، فإنه يهدد تكوين الانسان النفسي. فالزمن نشأ قبل 13.7 مليار عام ويزيد عمره ثلاث مرات على عمر الأرض. أظهرت رياضيات هوكينغ أن الكون إذا كان محدَّدا في الزمن فانه ليس متناهيًا في المكان.

ما من فلسفة تضع البشرية في مركز الأشياء قادرة على التعاطي مع حقائق كهذه. وكل ما يبقى هو التكاتف في مواجهة طغيان الواقع. مشهد رجل متهدل الكتفين في كرسي متحرك لا يني يبحث ويدرس مبرهنًا بجرأة بل وحتى بوقاحة على أن ما يمكن أن يصل إليه عقل الانسان لا حد له، أعطى بعض الأمل للتشبث به، كما كان هوكينغ يتمنى دائمًا.

 

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونوميست". الأصل منشور على الرابط:

https://www.economist.com/news/obituary/21738688-man-who-explained-universe-was-76-stephen-hawking-one-worlds-great-physicists