لندن: تألق أكبر إنجازات العالم الراحل ستيفن هوكينغ من خلال عمله في الفيزياء، وتواصله مع الناس رادمًا الثغرات بين اشياء كانت تُعد نقائض لا يمكن التوفيق بينها. سواءً باثباته أن الثقوب السوداء تشع مادة أم أن الثقافة الشعبية يمكن أن تستوعب ألغاز الكون، كانت لديه طريقة خاصة تربط بين أشياء تبدو مستحيلة.

إشعاع هوكينغ

قبل هوكينغ، كانت الثقوب السوداء تُعد "جامع القمامة الأشد غموضًا في الكون". وكان يُعتقد أن لا شيء يستطيع الافلات من الجاذبية الهائلة للثقوب السوداء. فهي من الكثافة بحيث أنها تجذب حتى الضوء. لكن هوكينغ وجد أن شيئًا يتسرب في الحقيقة من هذا الثقب الأسود: إنه الاشعاع. بفضل عمله، نعرف الآن أن الثقوب السوداء ليست حتى سوداء بالكامل، بل لها في الحقيقة وهج خافت مصدره كمية الطاقة الصغيرة التي تنبعث منها. أصبحت المعادلة التي وضعها هوكينغ لشرح عمل هذه الظاهرة إنجازه الأبرز وأُطلق عليه اسمه: إشعاع هوكينغ.

على الرغم من أن عمل هوكينغ قلب ما كان يُعتقد أنه حقيقة أساسية عن الثقوب السوداء فإنه في الحقيقة ربط بين مفهومين متناقضين في الفيزياء النظرية هما ميكانيك الكم والنظرية النسبية. قال رفائيل بوسو، الفيزيائي النظري في جامعة كاليفورنيا - بيركلي وأحد طلاب هوكينغ في كامبردج: "هذان هما الركنان اللذان تقوم عليهما الفيزياء، لكنهما في الواقع لا يتوافقان احدهما مع الآخر".

يدرس ميكانيك الكم عمل الكون على أصغر المستويات، مستوى الجسيمات مثل الالكترونات والبوزيترونات، في حين تتناول النظرية النسبية عمل الجاذبية على مستوى الأجسام الكبيرة في الكون، مستوى الكواكب والنجوم والمجرات. وكلا النظريتان قويتان.

أُفق الحدث

وجد هوكينغ طريقة للجمع بين الكبير والصغير. فهو درس ما يحدث حول جسم كبير فيه الكثير من الجاذبية على مستوى متناهي الصغر. بالملموس، درس كيف تتفاعل الجسيمات على حافة الثقب الأسود المعروف أو ما يُسمى أُفق الحدث. وكثيرًا ما يُشار إلى هذه التخوم على أنها نقطة اللاعودة، ما أن تعبرها حتى تقع في الثقب الأسود.

هنا، يبدأ العمل على المستوى الأصغر. بحسب ميكانيك الكم، ليس فراغ الفضاء فارغًا في الحقيقة بل تظهر جسيمات وتزول في الفراغ طول الوقت، تظهر في ثنائيات متنافرة، جسيم ذو طاقة موجبة وآخر ذو طاقة سالبة. فما يحدث لواحد يؤثر في الآخر. ويلتحم الثنائي بسرعة ويلغي أحدهما الآخر بلمح البصر. لكن، إذا تكوَّنا على أُفق الحدث، فهذا لا يحدث، وتتصرف الأشياء بغرابة. فالثقب الاسود يمتص الجسيم ذا الطاقة السالبة فيما يُقذف الجسيم الموجب بعيدًا عن الثقب الأسود. لكن الجسيم الأول بسبب طاقته السالبة يجعل الثقب الأسود أصغر فأصغر.

من دون تدخل، تستمر هذه العملية مليارات الأعوام. في النهاية، يضمحل الثقب الأسود ثم ينفجر، وهو انفجار صغير بالمعايير الفلكية، كما كتب هوكينغ. لكنه يعادل نحو مليون قنبلة هيدروجينية قوة كل منها ميغاطن.

مقرب المتباعدين

أظهر هوكينغ أن الثقف الأسود نظريًا يمكن أن يختفي بمرور الوقت إذا توافرت الظروف الملائمة. قلبت هذه الفكرة قوانين الفيزياء حين طُرحت في عام 1974، لكنها حلت لغزًا هائلًا وهو: إذا كان لا شيء يفلت من الثقب الأسود، فهذا يعني أنه جامع قمامة الكون يلتهم مادة لا تعود أبدًا. لكن هذا يتعارض مع قانون الديناميكا الحرارية القائل إن عشوائية منظومة ما وفوضاها لا يمكن أن تتناقصا بمرور الزمن. فكيف يجوز أن تشفط الثقوب السوداء أزبال الكون؟

أظهر اكتشاف هوكينغ أن الثقوب السوداء لا تناقض هذا القانون، وأنها بالإشعاع الذي ينبعث منها تُبقي الأشياء على فوضويتها.

لم يحلّ إشعاع هوكينغ كل شيء تمامًا، لكنه كان خطوة مهمة في الربط بين ميكانيك الكم والجاذبية. ما زال هناك أشياء كثيرة تتعلق بالفيزياء الكبرى والفيزياء الصغرى يتعين التوفيق بينها. وإشعاع هوكينغ طريقة تتيح للأفكار أن تعمل في ما بينها.

تعدت موهبة هوكينغ في الربط ميكانيك الكم والجاذبية، فالثقوب السوداء تبدو مجردة لكنه وجد طرقًا لتقريبها من الجمهور. وتمكن من إثارة اهتمام الأشخاص العاديين وفضولهم بشأن ما هو موجود في الكون. كما نشر كتبًا ذات طابع شعبي عن عمله. وهكذا، مثلما ربط بين الأشياء الكبيرة والصغيرة، حفز الجمهور على الاهتمام بالكون، وألهم أجيالًا جديدة من العلماء لمعرفة المزيد عن غرائب الفضاء والزمان.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن موقع "ذي فيرج".