«إيلاف» من الرباط: لم تؤثر الظرفية الاقتصادية التي تمر بها الجزائر حاليا ، نتيجة تراجع أسعار المحروقات ؛ على ثوابت سياستها الخارجية حيال العلاقة مع جوارها الأقرب، لغة ودينا وتاريخا مشتركا، وخاصة المغرب؛ إذ ما زال التوتر الفاتر، السمة الغالبة على العلاقات الثنائية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ، بل يمتد إلى ما قبلها استنتاج خلص إليه آخر استطلاع أنجزته" إيلاف المغرب " بنسبة معقولة استقرت في حدود الستين في المائة.
وسأل الموقع متصفحيه عن رأيهم فيما إذا كان الوضع الاقتصادي في الجزائر، سيدفع الأخيرة ، آجلا أم عاجلا ،إلى مراجعة ثوابت سياستها حيال جوارها ، والاقتناع بجدوى تفعيل مؤسسات اتحاد المغرب العربي التي أصابها الصدأ، منذ حوالي ثلاثة عقود ، بمعنى أن "الاتحاد" لم ينهض أبدا على قدميه منذ تأسيسه في قمة "مراكش" (فبراير1989) حين اجتمع رؤساء الأقطار الخمسة الذين لم يبق منهم أحد في السلطة : ثلاثة رحلوا عن هذه الدنيا( الحسن الثاني والشاذلي بنجديد ومعمر القذافي ) بينما يعيش في المنفى الرئيسان السابقان: التونسي زين العابدين بن علي، والموريتاني معاوية ولد سيدي احمد الطايع .
وكان العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني ،سباقا إلى الدعوة لقيام اتحاد مؤسسي للدول المغاربية ، مدفوعا بأسباب راهنة وتاريخية ، ضمنها الوفاء لزعماء التحرر الوطني الذين أمنوا أثناء فترة الكفاح ضد المستعمر وبعد نيل الاستقلال، بضرورة توحيد جهود وصف الأقطار الخمسة ( اجتماع طنجة 1958) حول غايات أبرزها تكوين جبهة موحدة تواجه القوى الاستعمارية التي تركت آثارا ومصالح وأتباعا في مستعمراتها السابقة.
وراهن الملك الحسن الثاني، بتفكيره البراغماتي ، على التنسيق والتكامل الاقتصادي باعتباره الأساس المتين والركيزة المادية لتمتين الروابط بين أعضاء الأسرة المغاربية وإبعاد أسباب أي خلاف بينها.
وابتدأت الخطوات التمهيدية الأولى لتشييد الصرح المغاربي بما هو عملي ونافع ، من خلال عمل " اللجنة الاستشارية الدائمة لدول المغرب العربي" التي ظل مقرها بتونس منذ إحداثها عام 1964 إلى أن انتهت مهمتها ، في مصير يشبه حال "الاتحاد" وأجهزته حيث لم يبق منه سوى مقر أمانته العامة بالرباط ، ينحصر نشاطه في تنظيم اجتماعات دورية للجان القطاعية ، تسفر عن قرارات غير منفذة .
وتعززت الآمال في الاتحاد المغاربي ، بعد اقتناع الجزائر بالانضمام اليه ، رغم خلافها مع المغرب ؛غير أن العلاقات الحذرة بين الطرفين القويين، ألقت بظلالها فيما بعد على أداء الكيان الذي لقي الترحيب من الجوار الأوروبي . اختارت الجزائر المستقلة نظاما "اشتراكيا" فانحازت إلى المعسكر الشيوعي واعتمدت نظام الحزب الوحيد ؛ خلاف المغرب الذي انتهج الليبرالية في الاقتصاد والتعددية في تنظيم الحياة السياسية .وهذا التباين كان كافيا وحده لانعدام الثقة بين الطرفين المتنافسين.
وساهم التباعد ،بين توجهات النظامين على المستويات السياسية ، الاقتصادية والأمنية ؛ في تحريك المشاكل والملفات العالقة بين الرباط والجزائر؛بعضها موروث عن الاستعمار(تخطيط الحدود) والبعض الآخر غذته مصالح المعسكرين الشرقي والغربي اللذين حاولا استمالة البلدين ، بالنظر لموقعهما الاستراتيجي والحيوي.
ولم تجد القوى الاستعمارية وسيلة أفضل من تركة الصحراء الخاضعة للاستعمار الإسباني، لتعميق الخلاف بين المغرب وجارته الشرقية. فتلك القوى ،لا تريدهما موحدين لذلك غذت مطامع الجزائر في الصحراء لأسباب اقتصادية ، وبينت لها المزايا الإستراتيجية ( منفذ دائم على المحيط الأطلسي).
لم تتردد الجزائر في تشجيع ناشطين على إقامة دويلة مصطنعة ،هي تدرك مسبقا استحالة عيشها ما لم تكن ذيلا تابعا لها، وورقة في يديها لاستعمالها في سعيها لبسط هيمنتها على الصعيد الإقليمي . كان طموح الجزائر اكبر من إمكاناتها، وثقتها في الاشتراكية بلا حدود.
وحيث إن المغرب موسوم بالتبعية للمعسكر الغربي الرأسمالي ، اعتبرته الجزائر نقيضا لها وخطرا مهددا لثورتها .لذلك بحثت عن الأنصار لحماية نفسها من المغرب المتربص ، في اعتقادها، بنظامها الثوري .
ولم تذهب الجزائر بعيدا، فقد وجدت ضالتها في الجامعة المغربية التي كانت في سبعينيات القرن الماضي تعج بأخلاط من التيارات اليسارية ذات الهوى نحو موسكو وبكين ،استشرت في البلاد تأثرا بثورة الطلاب والمقاومة الفلسطينية.
هاج الطلاب ، وبينهم صحراويون ، هضموا بسرعة ما قذفته مطابع " بيروت" الضاجة بأدبيات الثورة الفلسطينية وشيوع تحليلات ماركسية غير ناضجة تحض على حرب شعبية في المدن وتستنهض الفلاحين والعمال، لدحر قوى الإقطاع والرأسمالية.
في ظل أجواء الغليان الفكري ، داعب طلابا صحراويين في الكليات والمدارس العليا المغربية ، حلم أو سراب تنظيم مقاومة مسلحة في الصحراء المحتلة لطرد المحتل وتأسيس "بؤرة ثورية" ستصبح منطلقا للثورة الدائمة على الأنظمة العربية الرجعية . 
وضمن الطلبة، كان عدد من مؤسسي جبهة البوليساريو . منهم من أنهى دراسته ومن أوقفها ليلتحق بالمد الثوري الذي روجت له أصلا ، جماهيرية القذافي ، وأغدقت المال على طلاب فقراء يقتاتون من المنح المغربية المتواضعة ، فإذا هم بين ساعة وأخرى ، يحملون حقائب" سامسونايت" محشوة بالدولارات.
تضخم الوهم في نفوس وأذهان الشباب الصحراوي وتنافست على استقطابهم الجزائر وليبيا ( لكل واحدة أهدافها ومقاصدها ) .مهدا لهم السبيل لتأسيس "التنظيم الثوري" ( جبهة تحرير الصحراء والساقية الحمراء ) أو "بوليساريو" لتنشر البلاغات العسكرية عن خوض حرب شعبية لا تبقي ولا تذر، ضد الاستعمار الإسباني الذي كانت قواته محصورة في حاميات عسكرية ونقط مراقبة فوق التراب الصحراوي الشاسع.
أدرك الملك الحسن الثاني، بحسه السياسي القوي المخاطر القادمة وتوجس من تغيير محتمل في إسبانيا بعد رحيل الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو،. راهن الملك على قوى في الجارة الأيبيرية ، مستغلا فرصة "التخبط"السياسي الذي رافق احتضار فرانكو الطويل؛ فتهيأت الظروف لتوجيه "ضربة المعلم" (تنظيم المسيرة الخضراء).
حاول الملك الحسن الثاني، تهدئة غضب الجزائر وطمأنها بكل السبل ،عارضا صيغا لتعاون بعيد المدى يعود بالجدوى عليهما وعلى المغرب العربي .التزم بتوفير منفذ لجارته على المحيط الأطلسي ،يؤمن لها تصدير الطاقة إلى الخارج ؛ كما صادق برلمان المغرب على اتفاقية الحدود الموروثة عن الاستعمار، وفيها تنازل عن أراضي تابعة تاريخيا للدولة المغربية . كل تلك النوايا الطيبة لم تقنع الجارة وتحد من غضبها.
وبعد مرورعقد من الزمان على وفاة الرئيس هواري بومدين، حاولت الرباط فتح صفحة جديدة مع خلفه الشاذلي بنجديد . وفعلا أمكن جمع شمل القادة الخمس في مراكش ، حيث أعلنوا قيام "اتحاد المغرب العربي "معبرين عن الرغبة في إقامة علاقات بينية قوامها السلم والتعاون. نجح المغرب بعد جهد ، في استبعاد "الجمهورية الصحراوية " المعلنة من جانب واحد التي اعترف بها الرئيس الراحل بومدين، ساعات إثر الإعلان عنها من عاصمة بلاده .
لم يدم تفاؤل المغرب طويلا.انغمست الجزائر في مشاكلها الداخلية ،وفي لحظة غرقت في أتون حرب أهلية طاحنة، أطاحت تداعياتها بالرئيس بن جديد ،الموقع على اتفاقية مراكش. أعقبت الإقالة تقلبات سياسية إلى أن نودي على وزير الخارجية الأسبق ،عبد العزيز بوتفليقة ، ليتولى رئاسة الجمهورية .
لم تتحقق تمنيات العهد الجديد بالمغرب، في "بوتفليقة" المطلع والعارف أكثر من غيره على أسرار ملف الصحراء ، كونه أحد صناعه وأحد مؤلفي فصوله. لا شك أنه واجه إكراهات ، لذا بدا أكثر تشددا ممن توالوا على قصر "المرادية" وهذا ما فاجأ المغرب.
في هذا السياق، وأمام خضم الأحداث والتقلبات المتلاحقة ، تبدو نتيجة استطلاع "إيلاف المغرب" منطقية إلى حد ما :أكثر من نصف المستجوبين يعتقدون أن الجزائر لن تغير موقفها من نزاع الصحراء مهما اشتدت أزماتها الاقتصادية والاجتماعية ؛ بينما يخالفهم حوالي 40 في المائة ، يأملون الخير في المستقبل ويخامرهم اليقين أن الجزائر ، ستقتنع أن لا محيد عن البناء المغاربي المتوقف بسبب نزاع الصحراء الذي لا حل له إلا على قاعدة إنصاف المغرب ،المتفهم لخصوصية وطبيعة الأقاليم الصحراوية ، المتعلقة به سياسيا واسريا وتجاريا ومذهبيا ...
هل يكفي ذلك لإنعاش أمل في الخلاص؟

ان الخاسر الأكبر من إدامة نزاع الصحراء هو الدول المغاربية ؛ والخسارة العظمى هي جزائرية بالأساس. صحيح أنها حققت بعض المكاسب السياسية بإدخالها " الجمهورية الصحراوية" المعلنة من جانب واحد ، إلى" الاتحاد الأفريقي" وهو نصر مشكوك فيه ولا يمكن أن يحل مشاكل البلاد الاقتصادية المرشحة للتفاقم ما لم يقع انفراج بين البلدين أولا ليعم الفضاء المغاربي الواسع.
لابد من التسلح بالأمل مهما طال الزمن رغم تشاؤم العينة الغالبة من مستطلعي "إيلاف المغرب".