إيلاف من واشنطن: كتب مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي أي آيه)، مقالةً في صحيفة "نيويورك تايمز" عن الرئيس دونالد ترمب وأسلوبه في التعاطي مع الاستخبارات. نقرأه مع الملاحظة أن الاستخبارات الأميركية هي أقوى جهاز استخبارات في العالم.

 ما بعد الحقيقة

على الرغم من قوة وكالة المخابرات المركزية وسطوتها، فالرئيس الاميركي وليس هي صاحب القرار النهائي بشأن رسم السياسات. كان هناك دائمًا توتر بين محللي الوكالة والبيت الأبيض؛ وإذ يكون اختيار المحللين السياسيين على أساس معرفتهم وكفاءتهم وخبرتهم، فإنهم يجرون تحليلاتهم المستقلة الخاصة. ويعود إلى البيت الأبيض إن كان سيأخذ بتحليلهم. أدناه أهم ما كتبه هايدن عن طريقة ترمب في تلقي التحليلات الآتية من وكالة المخابرات المركزية، وهو يتجاهل حقائق معينة ضرورية لصنع السياسة الخارجية.

لم يكن مصادفة أن مفردة العام في قاموس اوكسفورد لعام 2016 كانت عبارة "ما بعد الحقيقة"، وهي حالة تكون الحقائق فيها أقل تأثيرًا في تكوين الرأي من العاطفة والرأي الشخصي. يعني اعتماد التفكير ما بعد الحقائقي الابتعاد عن أفكار التنوير السائدة في الغرب منذ القرن السابع عشر، التي تثمن الخبرة والمعرفة، والأهمية المركزية للحقيقة، والتواضع في مواجهة التعقيد، والحاجة إلى الدراسة، واحترام الأفكار.

يعكس ترمب هذا التفكير ما بعد الحقائقي ويستغله في آن واحد. ويجوز القول إن حملة ترمب قامت بتطبيع الكذب إلى درجة لا سابق لها؛ إذ كان هناك إدعاء المرشح بأن حشودًا من العرب احتفلوا على نحو جامح في نيو جرسي عندما انهار مركز التجارة العالمي. ودافع عن دعواته إلى قتل عائلات إرهابيي 11 سبتمبر لأنها "كانت تعرف ما يجري"، وشاهدت النساء "أزواجهن على شاشة التلفزيون يصدمون الطائرة بمركز التجارة العالمي"، وهو ادعاء ليس هناك أي دليل يسنده. ولمح ترمب إلى أن والد عضو مجلس الشيوخ تيد كروز كان ضالعًا في اغتيال جون كندي، وأن عضو المحكمة العليا القاضي انتونين سكاليا مات مقتولًا.

 أعظم خطاب!

عندما يُطالب الرئيس بتقديم أدلة ملموسة، فإنه في العادة يحط من قدر الذين يسائلونه، سواءً أكانوا إعلامًا "كاذبًا" أو قضاة "مزعومين" أو مدسوسين في واشنطن أو "الدولة العميقة". كما شجب ترمب مسؤولين استخباراتيين من عهد اوباما بوصفهم "مأجورين سياسيين".

سألني ديفيد بريس، ضابط الاستخبارات الذي مر وقت كان يقدم فيه إيجازات يومية رئاسية إن كنتُ أعتقد أن ترمب يستطيع التمييز بين الحقيقة واللاحقيقة. أورد الخطاب المثير للجدل الذي ألقاه ترمب في ملتقى فتيان الكشافة في ويست فرجينيا في يوليو 2017، وهو خطاب مغرق في السياسة وعديم الذوق أحيانًا. وفي مواجهة الانتقادات اللاذعة التي وجهت إليه، قال ترمب إن قائد الكشافة اتصل به ليقول: "هذا أعظم خطاب أُلقي فيهم".

بالطبع، لم يحدث اتصال كهذا. لكن، هل كان ترمب قادرًا في الحقيقة على التمييز بين الماضي الذي حدث فعلًا، والماضي الذي كان يحتاج إليه في تلك اللحظة؟ كانت النقطة التي أراد بريس إيصالها هي أن بامكانك أحيانًا أن تُقنع كذابًا بأنه مخطئ، لكن ما العمل مع شخص لا يميز بين الحقيقة واللاحقيقة؟

نحن معشر العاملين في عالم الاستخبارات تعاملنا مع رؤساء عنيدين، يحبون الجدال، على مدى سنوات. لكننا لم نخدم قط رئيسًا لا تهمه الحقيقة القائمة على الدليل.

 تحزب شمولي

بالنسبة إلى كثير من الأميركيين، هذه ليست مشكلة. في العام الماضي، التقيتُ بعضًا منهم في الغرفة الخلفية لحانة رياضية في بيتسبرغ، حيث نظم شقيقي لقاءً معي لعشرات من مؤيدي ترمب.

كنتُ أعرف العديد منهم، بل نشأتُ مع عدد كبير منهم. لكننا كنا متباعدين كأننا من كوكبين مختلفين. هم يعملون بكد ويدفعون ضرائبهم ويكافحون من أجل تربية أطفالهم لكنهم يشعرون أن حكومتهم تهملهم. وترمب رجلهم: "إنه أميركي". "إنه صادق". "إنه لا يمرر كل شيء بمصفاة أو يلوك الكلام".

هم أيضًا لم يبدوا معنيين بالحقائق، أو في الأقل ليس بحقائقي أنا. ذلك أن التحزب السياسي في أميركا صار اليوم ما يسميه ديفيد بروكس "شموليًا". وكما يكتب بروكس، تملأ الهوية المتحزبة "الفراغ عندما تضمحل التزاماتهم الأخرى، الدينية والأخلاقية والاجتماعية والعائلية". ترتبط المعتقدات الآن بهذه الهويات، حتى إن المعلومات لا تكون مفيدة بصفة خاصة لإسناد وجهة نظر.

يعكس العمل الاستخباراتي - كما يُمارس وفق التقليد الليبرالي الغربي في الأقل - هذه القيم التنويرية المهدَّدة: جمع المعلومات وتقييمها وتحليلها، ثم توزيع الخلاصات للاستعمال أو الدراسة أو الدحض.

تبدى كيف أن تأكّل القيم التنويرية يهدد العمل الاستخباراتي الجيد في الأمر التنفيذي الخاطئ وسيئ التنفيذ لإدارة ترمب الذي بدا للعالم كأنه حظر على المسلمين.

مخاوف مبالَغ فيها

من المؤكد تقريبًا أن هذا الأمر لم يكن نتاج تحليل استخباراتي عن التهديد الذي يشكله مهاجرون من بلدان معينة بل الرئيس محاولًا تنفيذ وعد انتخابي يقوم على مخاوف مبالَغ فيها من المهاجرين، وانتقاد ظالم لنظام التدقيق في سيرة اللاجئ. قال لي مسؤول استخباراتي كبير سابق إنه عندما أُعلن المنع داخليًا، قيل للجميع أن يوافقوا بلا نقاش.

انضممتُ إلى العديد من المدراء السابقين لوكالة المخابرات المركزية والمدراء السابقين بالوكالة واثنين من نواب الرئيس السابقين ومدير سابق للاستخبارات الوطنية ورئيس سابق لمركز مكافحة الارهاب وآخرين في تقديم مذكرة قانونية تعارض المنع. كان الأشخاص الذي يشغلون الآن مناصبنا صامتين على نحو لافت بشأن استحقاقات الأمر.

بمرور الوقت، أصبح واضحًا لي أن القرارات الأمنية في إدارة ترمب تتبع نمطًا معينًا؛ إذ يبدو أن النقاش يبدأ بقول أو تغريدة رئاسية ثم يلي ذلك مجهود واسع النطاق لإطلاع الرئيس والإلحاح عليه أن يرى تعقيد القضية المطروحة ومراجعة التاريخ ذي العلاقة وسوق المزيد من العوامل التي تؤثر في القضية والإشارة إلى العواقب من الدرجة الثانية والثالثة واستكشاف الخطوات اللاحقة. 

ليس الأمر سهلًا. فالرئيس، طبقًا لكل الروايات، ليس رجلًا صبورًا. وبحسب صحيفة "واشنطن بوست"، فإن أحد المقربين من ترمب وصفه قائلًا إنه "رجل ذو دقيقتين" و"عنده صبر لنصف صفحة". وهو يصر على أن تكون الإيجازات الاستخباراتية خمس صفحات أو أقصر بدلًا من ستين صفحة كنا في العادة نقدمها إلى الرؤساء السابقين. لكن، ثمة مشكلات لا يمكن تبسيطها.

 حملة مطاردة الساحرات

أحيانًا، يصيب ترمب الهدف، بسحر ساحر تقريبًا. فخطابه في أغسطس الماضي عن افغانستان كان يستحق الاستماع اليه، ومن الواضح انه كان نتاج عملية تدارس تقليدية حيث تقدم الاستخبارات الصورة على أساس المعلومات المتاحة، ثم تأتي الوكالات الأمنية بآراء يبت فيها مجلس الأمن القومي.

لكن الخبرة الأفغانية كانت الاستثناء. ما زال الرئيس يهاجم الاتفاق النووي مع إيران، ومن المرجح أن يلغيه حتى في مواجهة معلومات استخباراتية تفيد أن إيران لم ترتكب خرقًا ماديًا للعهد، وأن الاتفاق يجعل من الأصعب على إيران بناء سلاح، ويتيح لنا أن نرى برنامجها النووي. 

ثم هناك روسيا... فالرئيس لم يوافق إلا أخيرًا، وعلى مضض، على فرض عقوبات ضد روسيا التي يُعتقد انها تدخلت في الانتخابات الاميركية، وهو ما زال يصف التحقيق بأنه "حملة لمطاردة الساحرات"، وفي الوقت نفسه يهاجم وكالات في ادارته نفسها بلا هوادة.

أهان ترمب المدعي العام وأضعف مستشار الأمن القومي وانخرط في ثارات شخصية ضد مسؤولين كبار في مكتب التحقيقات الفيدرالي.

بعد أشهر قليلة على تنصيب ترمب، اتصل بي زميل ظن انه على قائمة قصيرة من المرشحين لمنصب رفيع جدًا. سألني عن رأيي فقلت له إني كنت سأتحدث معه قبل ثلاثة اشهر عن واجبه في أن يخدم. والآن أقول له أن يرفض. قلت: "أنت شاب، لا تعرض نفسك للخطر في المستقبل. لديك الكثير لتقدمه... ذات يوم".

واقع موضوعي

حين يطلب مشورتي مسؤولون في الحكومة، خصوصًا مسؤولون صغار، أُذكَّرهم بواجبهم لمساعدة الرئيس على النجاح، لكنني أضيف: "احمِ نفسك... اكتب ملاحظات واحفظها. وفي المقام الأول أحمِ المؤسسة، فأميركا ما زالت تحتاجها".

هذا يخلق مأزقًا أعمق. فالعمل الاستخباراتي يصبح مرانًا أكاديميًا هزيلًا إذا لم يكن مجديًا ومفيدًا. وعليه دائمًا أن يتكيف مع السمات المميزة لأي رئيس وأسلوب تعلمه وسياساته وأولوياته للحفاظ على جدواه وفائدته.

لكن، يجب أن تكون هناك حدود. وسيحكم التاريخ - والرئيس المقبل - على الاستخبارات الاميركية، وإذا اتضح أنها تمادت في مداراة هذا الرئيس أو أي رئيس آخر، سيكون ذلك كارثة تحل في اجهزة الاستخبارات بصفة عامة.

في عالم ما بعد الحقيقة، تتعاطى أجهزة الاستخبارات مع اطراف غير متوقعة: الصحافة والوسط الأكاديمي والمحاكم ومؤسسة إنفاذ القانون والعلم، وكلها، مثلها مثل العمل الاستخباراتي، تعتمد في عملها على الأدلة. ويشترك العمل الاستخباراتي بواجب أوسع مع هذه الأطراف الأخرى التي تتعامل بالحقائق لصون التزام مجتمعنا وقدرته على بناء القرارات الهامة على أساس ما هو، في حكمنا، الواقع الموضوعي.