بيروت: خلال سبع سنوات، رسمت الحرب وموجات النزوح خريطة سكانية جديدة في سوريا، مع مواطنين هجروا تحت ضغط المعارك واتفاقات الإجلاء، وأقليات فرت خشية التهديدات الطائفية، ومجموعات إتنية حلّت محل أخرى، ومدن فرغت بكاملها من السكان.

ولا يلوح في الافق، بحسب سكان ومحللين، أي أمل بعودة جميع النازحين واللاجئين البالغ عددهم نحو 11 مليونا داخل البلاد وخارجها، الى المناطق التي خرجوا منها.

على الخارطة الجديدة، طرد معارضو النظام وغالبيتهم من السنة من مناطق عدة، وتجمعت الاقليات في مناطق أخرى، وباتت المناطق الجغرافية إجمالا من لون طائفي واحد.

ويقول مقاتل يعرّف عن نفسه باسم أبو مصعب (25 عاماً)، وقد غادر المدينة القديمة في حمص (وسط) بناء على اتفاق إجلاء مع قوات النظام في 2014، لوكالة فرانس برس عبر الانترنت، "من المستحيل أن أعود إلى مناطق النظام، وأعيش جنباً إلى جنب مع العلويين"، مضيفاً "بالتأكيد سأقول هذا لابني ليكون بدوره حاقداً على الجهة التي قامت بذلك".

ويلقي أبو مصعب اللوم على الطائفة العلوية التي يتحدر منها الرئيس السوري بشار الأسد. ويضيف "لقد تقسّم البلد: الشمال للسنة، والشمال الشرقي للأكراد، أما العلويون والشيعة فيتواجدون في اللاذقية وطرطوس (الساحل) وحمص". 

بعد خروجه من المدينة القديمة، توجه أبو مصعب إلى ريف حمص الشمالي، لكنه اضطر مجدداً إلى المغادرة مع عائلته الى إدلب في شمال غرب البلاد، بموجب اتفاق إجلاء جديد بين قوات النظام والفصائل المعارضة في شهر ايار/مايو الحالي.

ويقول "كان الهدف بداية أن يتخلصوا من المقاتلين، لكننا وصلنا الى مرحلة حدث فيها تغيير ديموغرافي من دون أن ندرك".

- إجلاء متبادل -

ويقول الخبير في الشؤون السورية فابريس بالانش لفرانس برس إنها "عملية تغيير ديموغرافية سياسية وإتنية"، موضحاً "إنها استراتيجية طرد المعارضين السياسيين، وفي سوريا لا تمييز بين المعارضة السياسية والانتماء الطائفي".

وكرست اتفاقات الإجلاء نقل السكان من مناطق الى أخرى، وفق بالانش الذي يوضح أن "النظام يطرد كل من يعتبرهم معارضين كونهم قد يشكلون يوماً عاملاً لثورة جديدة".

وشهدت سوريا عمليات إجلاء عدة، أبرزها من الغوطة الشرقية قرب دمشق الشهر الماضي، وفي كانون الاول/ديسمبر 2016 من الأحياء الشرقية في مدينة حلب (شمال). ومع الوقت، باتت إدلب تستضيف عشرات الآلاف من المقاتلين والمدنيين المعارضين، معظمهم من السنة.

وتتهم المعارضة النظام بـالقيام بـ"تهجير قسري" لفرض تغيير ديموغرافي. 

وقبل الحرب في 2011، كان السنة العرب يشكلون 65% من السكان مقابل 20% أقليات و15% من الأكراد.

ويعيش حالياً في مناطق سيطرة النظام، بحسب بالانش، 70 في المئة من السكان، ثلثهم من الأقليات.

ويرى بالانش أن كل الاطراف متورطة في نسج هذه الخارطة السكانية الجديدة، مشيراً الى أن الفصائل المعارضة طردت علويين ومسيحيين من مناطق عدة على اعتبار أنهم موالون. 

وهذا ما حصل في قرى وبلدات عدة في محافظة ادلب خلال سيطرة الفصائل عليها في العام 2015 مثل اشتبرق (علويون) والغسانية (مسيحيون)، وفق المرصد السوري لحقوق الانسان.

ومنذ العام 2015، وبموجب اتفاق بين الحكومة السورية والفصائل المعارضة، تمّ على مراحل إجلاء الآلاف من سكان قريتي الفوعة وكفريا الشيعيتين والمحاصرتين من الفصائل الإسلامية في إدلب، مقابل خروج الآلاف من بلدتي مضايا والزبداني قرب دمشق اللتين كانتا محاصرتين من النظام. 

واعتبر الرئيس السوري بشار الأسد في 2017 في مقابلة مع فرانس برس أن العملية "تهجير إجباري"، لكن "مؤقت".

ويقول عباس عباس (36 عاماً) النازح من كفريا إلى منطقة السيدة زينب قرب دمشق، إنه لا يحلم بالعودة الى منزله.

ويضيف إنه كان "دائماً يخشى الخطف" في منطقته بسبب انتمائه إلى الطائفة الشيعية، مضيفاً "معظم سكان كفريا لا يريدون العودة".

ويتابع "تزوجنا وصاهرنا الكثيرين من القرى المجاورة لنا، لكن الحال تغير اليوم (...) ونعلم جيداً أنه عاجلاً أم آجلاً سيدخل الغرباء قرانا"، في إشارة إلى أشخاص آخرين سيسكنون منازلهم.

ولا يزال آلاف الأشخاص محاصرين في الفوعة وكفريا وينتظرون التوصل إلى تسوية تتيح لهم الخروج إلى مناطق سيطرة الحكومة. 

- فتنة؟ - 

في شمال سوريا، وعلى وقع هجوم تركي ضد عفرين ذات الغالبية الكردية، فرّ اكثر من 137 ألف شخص قبل سيطرة القوات التركية على مدينة عفرين في آذار/مارس إلى مناطق قريبة تحت سيطرة قوات النظام، أو توجهوا إلى مناطق سيطرة الأكراد شرقاً.

وعلى الاثر، استقر نحو 35 ألف شخص تم اجلاؤهم من الغوطة الشرقية في منازل أو مخيمات في منطقة عفرين.

ويتهم الأكراد تركيا بممارسة التهجير العرقي. ويقول محللون إن أنقرة تسعى لتحديد منطقة تعيد إليها اللاجئين السوريين الموجودين على أرضها، بالاضافة الى إبعاد الاكراد عن حدودها.

ويقول الأستاذ الجامعي أحمد يوسف النازح من عفرين إلى كوباني "لست متفائلاً. كلما طال الوقت، قد تثبّت عملية التغيير الديموغرافي". ويشير إلى محاولة فرض "بيئة ثقافية جديدة".

بينما يقول جيلنك عمر، الأستاذ في جامعة عفرين الذي انتقل الى منطقة كوباني، "نخشى فتنة عربية كردية (...). هم (العرب) سوريون ومن ضحايا التهجير أيضاً، لكن إن كانوا سيستوطنون رغماً عن إرداة العفريني، فهذا يفتح أبواباً لصراع قومي".

ويتساءل "من سيسكن الغوطة غداً؟".

في المقابل، يتهم سوريون عرب الأكراد بممارسة سياسة التهجير القسري بحق السكان العرب في مناطق سيطرتهم.

ويزيد الدمار في المدن والقرى وقانون جديد للتنظيم العمراني من خشية السكان خسارة ممتلكاتهم. ويتيح القانون رقم 10 الصادر العام الحالي عن الحكومة اقامة مشاريع عمرانية جديدة ويمنح مهلة محددة للسكان لإثبات ملكياتهم في المناطق المعنية بالمشاريع، تحت طائلة مصادرة هذه الاملاك. وهو أمر لن يتمكن الكثير النازحين واللاجئين القيام به.

وترى الباحثة في منظمة العفو الدولية ديانا سمعان أنه بغياب أي اعتراف بانتهاكات "من الحكومة السورية تجاه السنّة أو الفصائل المسلحة تجاه العلويين والمسيحيين، لن تكون هناك مساءلة أو عدالة في سوريا".

وتضيف "لذلك سيكون المجتمع السوري متفسخاً، وكل طائفة ستنغلق على نفسها".