إيلاف من أصيلة: عُقدت مساء يوم السبت السابع من شهر تموز الجاري في مكتبة الأمير بندر بن سلطان بمدينة أصيلة شمال المغرب ندوة موسعة لمناقشة مرحلة ما بعد العولمة شارك فيها عدد من الساسة والمفكرين والباحثين من أجل تقديم حلول وإجابات للسؤال الذي تبناه منتدى أصيلة في موسمه الأربعين حول تداعيات ما بعد العولمة التي ظهرت عدة تفاسير لها، غالبها اقتصادية تقود الى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وسيطرة الولايات المتحدة الأميركية كانت العولمة تحت تأثيرها.

ويأتي طرح هذا السؤال حول العولمة في هذه المرحلة بالذات مناسباً تماماً بعد وصول عدوى الدولة الوطنية وحماية النوع الواحد من الدخيل المهاجر الى دول، أوروبية خاصة، كانت حتى وقت قريب تسعى للتنوع الفكري والسياسي وقبلهما القومي وظلت لعقود مرحبة بالقادمين اليها من أتون حروب واضطهادات.

وبعد فوز اليمين المتطرف برئاسة أحزاب وحكومات ومدن باتت اليوم الى تطوق حدودها بأسوار مفاهيمية قبل المادية للحؤول دون وصول غرباء اليها قد يخلّون بنوعها السكاني الذي تراه مميزاً وتريد المحافظة عليه، بعد ساعدت، عبر مفهوم العولمة، قبلاً، بإغراء من تصدهم وبعدهم اليوم عنها بالقدوم إليها لإغناء التنوع الثقافي والانساني فيها. 

وعلى الرغم من الخدمات التي قدمتها أدوات العولمة، خاصة التقنية منها، للإنسانية، لكنها بذات الوقت حطمت إنسانية الفرد وتسعى قدماً لتحويله الى روبوت تقوده الاجهزة الالكترونية التي بلغ تمسك الفرد والجماعات بها الى تكين جيوش من العاطلين بسبب احلالها مكانه فيها، فشهد العالم انتكاسات اقتصادية قد تكون نكبة بداية الالفية الثالثة المالية من أسبابها أيضاً.

منسق الندوة د. المختار بنعبدلاوي أفتتح الحديث بالتركيز على الحاجة الانسانية الى الترابط بين الأمم التي كانت قائمة حتى قبل شيوع مفهوم العولمة وانتشاره قبل نحو ثلاثة عقود. 
وعكس تطور القدرات الانتاجية في دول العالم الى ابتعاد التركيز على الولايات المتحدة كرائدة وحيدة لهذه القدرات.

وأشار الى انسحاب انكلترا من الاتحاد الاوروبي وفوز رجل الأعمال والسياسي الشعبوي دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية يعتبران من تمظهرات ما بعد العولمة.

وقد ساعدا اليمين الاوروبي المتطرف بالصعود ورفع صوته عالياً وسط اكتسابه أصواتاُ انتخابية وازنة في عدد من البلدان الأوروبية التي بات الحديث فيها عن مفهوم الدولة والوطنية وحماية النوع وصد الهجرات القادمة الى بلدان آسيا وأروبا مسموعة ومجابة.

البحث عن عالم جديد
السيد محمد بن عيسى أمين عام منتدى أصيلة ووزير الثقافة والخارجية في المغرب سابقاً الذي رحب بالمشاركين في الندوة التي هي الثالثة ضمن فعاليات الدورة الثالثة والثلاثين لجامعة المعتمد بن عباد الصيفية، قال ان منتدى أصيلة كان من السباقين الى طرح إشكالية العولمة في مواسمه منذ عام 1992 قبل أن تتبلور ملامحها وآثارها وتداعياتها الضارة والنافعة، فقد طالت العولمة أوجه الحياة ونظم كثيرة مثلما انعكست على منظومة العلاقات الاقليمية والدولية وامتد تأثيرها الى السياسة والاقتصاد والثقافة والفن.

وأشار بن عيسى الى ان العالم يجتاز الآن ومنذ الحرب العالمية الثانية أدق وأحرج فترة في التطورات الاقتصادية والسياسية التي تعرفها جل الدول وكذلك على صعيد مسار العلاقات الثقافية الدولية. 
فقد العولمة مؤثرة سلباً على المنظومات القيمية والهويات الوطنية. كما تتميز هذه المرحلة بنزوح كبير من بعض القادة السياسيين وحتى المفكرين في الغرب نحو شعبوية طالت نظما سياسية هنا وهناك.

ورأى اننا، ربما، نعيش مرحلة البحث عن عالم جديد مغاير يؤسس لمفهوم جديد للديمقراطية والتعاون والتعايش والسلم الدولي من أجل أبعاد أسباب القلق والخوف وعدم الاستقرار، هي مشاعر باتت مهيمنة على قطاعات كبيرة من الرأي العام في عدد من المجتمعات.

تجربة شخصية
السيدة بينيتا فيريرو فالنر وزير خارجية النمسا سابقاً ورئيس مؤسسة أورو أميركا تحدثت عن تجربتها الشخصية، بصراحة وجرأة، حين كانت وزير خارجية، حيث لم تكن تفهم شيئاً من الحديث عن نظرية نهاية التاريخ التي كان يتكرر طرحها في المؤتمرات الدولية التي شاركت فيها.

وأضافت أنها لم تكن تفهم شيئاً عن العولمة في التسعينيات. لكن حين جاء الاتحاد الاوروبي بالرفاه والديمقراطية وتميزه بسلطته الناعمة سعت البلدان الشرقية في أوروبا للانضمام اليه حيث كانت تنظر الى أوروبا ككيان قادر على حل كل مشكلة وخلل. لكن ما طرأ في البلقان من حروب وتفكك توصل الاوروبيون منهم السيدة فالنر الى أن الاتحاد الاوروبي غير قادر على حلّ كلّ شيء. فبرزت الحاجة الى الولايات المتحدة الأميركية التي أستُعين بها أيضاً لحل المشكلة الفلسطينية من أجل إحلال السلام في الشرق الاوسط لكنها لم تنجح الى الآن.

وتحدثت عن فترة ما بعد 2001 بعد الاعتداء الارهابي في أميركا سعى الرئيس جورج بوش الى نشر الديمقراطية بالقوة في دول الشرق الاوسط، وتبع ذلك الازمة المالية التي ترى انها كانت بسبب أزمة ثقة سياسية متبادلة. ورأت ان العولمة تعاني اليوم من ثورة التقنية الاعلامية التي سببت الانطواء على النفس. وعدت الى النظر لموضوع العولمة من منظور انساني، مركزة على ضرورة حل مشكلة التغيير المناخي والهجرات والحاجة للحكم للرشيد وهي مرحلة لن نبلغها، على حد تعبيرها.

الصدمة الصينية
وزير الخارجية والتعاون الاسباني السابق ميغيل أنخيل موراتينوس تحدث عن وجهة نظره حيال العولمة مفضلاً الحديث باللغة الفرنسية ليعكس تنوع وتبادل الأفكار والفعاليات وكأحد مظاهر العولمة. 

وربط بين تاريخ أصيلة ومنتداها، بالتطورات التي طرأت على المنتدى حين كانت الحرب الباردة والستار الحديدي، ثم جاء عالم جديد غير منتظر فانقلبت الأمور، وصار عدم اليقين هو المسيطر وبات علينا التفكير بشكل مغاير، فحن انهار جدار برلين لم نكن مستعدين لذلك الحدث في تاريخنا المشترك.

وقد كانت أصيلة تشهد كل هذه التحولات بالحديث عن جدار برلين وما بعده وتطور أفريقيا. وأشار الى تكون تراكم بين هذا هذه الأحداث بطريقة غريبة.

وأستطرد في الحديث عن التفاؤل في نهاية الألفية الثانية خاصة تجاه السلام في الشرق الأوسط، الذي كان أحد أركانه كوسيط أممي. وتحدث عن الطمأنينة من عدم حدوث تغيير جذري في العالم. حتى حلت الانهيار للنظام الجيوسياسي الدولي عام 2001 ليس بسبب الاعتداء الارهابي بل بسبب رد الفعل المبالغ به والخروج باستنتاج عام قلب العالم وانهار نسق الامن الدولي وانهارت المنظومة المالية. فبات الناس يشعرون بالخوف من المستقبل. وفي هذا السياق تطورت العولمة، التي كانت موجودة قبلاً، واتخذت أبعاداً مختلفة ولمسنا التطور العلمي والتقني.

ودعا موراتينوس الى التعايش ومعايشة الظروف الجديدة. لكنه كرر الحديث عن وجود قوة عظمى لا تزال لا يقدر أحد على تجاهل دورها وهي الولايات المتحدة التي دعا رئيسها أوباما الى تعددية الاقطاب. لكن كشف عن صدمته من قول الرئيس الصيني عام 2017 في منتدى داوفوس حين كانت الدول تناقش مسألة تعددية الاطراف كبديل عن الطرف الواحد، فانبرى الرئيس الصين بالقول إن الصين تقود المجتمع الدولي بطريقة تراعي بها السلام.

ودعا في ختام ورقته الى أن لا نسمح للتكنلوجيا بالسيطرة علينا بل نستخدمها وسيل لخدماتنا.

وزير العدل والشؤون الخارجية في الهند سابقاً ركز على ضرورة مناقشة الجوانب الانسانية في مفهوم العولمة، فهناك عناصر تشكل قيماً مشتركة تساهم بالتقارب الروحي. 

وقال إن صراع الحضارات، تلك النظرية التي أطلقها فوكوياما، لم تفسر بشكل تام. كان هناك الغالب والمغلوب. فكان الغالب يريد وضع حد لصراع الحضارات لكننا رأينا أن الحضارات لم تزل تتصارع.

ورأى خورشيد أن الارهاب الذي يجري الحديث عنه اليوم بإسهاب هو ليس صراعاً بين الحضارات بل هو صراع عدو محدود من الجماعات، كالصراع بين السنة والشيعة في العراق وسورية.

وتساءل عن سبب نشوب الحربين العالميتين اللتين رأى أن تطلعات ومصالح للزعماء كانت معقودة على هاتين الحربين لإتمامها. وبين أن الحرب العالمية الثانية لم تتمكن من وضع حدّ للصراعات الحضارية، مستشهداً بما حدث في فيتنام وكمبوديا وما يحدث اليوم في سورية.

وخلص الى أن مظاهر الصراعات تغيرت لكن النوايا لم تتغير.

وتحدث عن بلده الهند وتعدد الثقافات فيها التي لم تتأثر بالعولمة وبسعي اوروبا لاستقبال التدفقات الهجرية اليها.

وتطرق الى ثورة المعلومات التي جعلتنا نستقر في حيز محدود من الكون ونتواصل عبر الانترنيت، لكن هل نتواصل انسانياً في هذا الحيز الافتراضي؟ وهل نقدر أن نعولم التخاطب؟

وهل نقدر أن نسقط الحواجز ونتواصل ونتعامل مع التحديات القائمة اليوم من قلة المياه والتغيير المناخي؟ وختم بأن الجنس البشري بات اليوم مهدداً بالانقراض لولا العولمة.

انقاذ العولمة
الروائي والشاعر ووزير الثقافة المغربي السابق محمد الأشعري تحدث عن سؤال ما بعد العولمة الذي أعتبره سؤال البدايات ويطرح اليوم بإلحاح لوجود أعراض أزمة حقيقية منذ القرن الماضي الى اليوم.

وأشار الأشعري الى انتصار الرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي تم اظهاره انتصاراً للإنسانية لبناء التفوق الانساني، واستخدمت كل الاسلحة العلمية لإقناعنا أن حرية انتقال البضائع والاشخاص والافكار ستخلق عالماً جديداً وتقضي على آفات العالم القديم.

ورأى أن صور الوطن الأجمل والأمنة والكيانات الصغيرة والفرد والدين لا مجال لها في ظل التطورات الجديدة. وتساءل أما ان ننخرط في العولمة أو نكون مجرد أداة من أدواتها. وتطرق أي اصرار اليسار لكي يكون تنويعاً جديداً لليبرالية. ورأى أن كارل ماركس ربما كان على حق بقوله أن الرأسمالية تحمل عناصر تدميرها.

وقال إن الصين هي الصين وأميركا أولاً هي أميركا اولاً. وعادت أوروبا الى حماقاتها الأولى بالخوف من الآخر وتنامي خطاب الوطنية بعد أن كنا نراها مثالاً مميزاً.

وتساءل الأشعري عن سبب عدم العودة لرشدنا واعتبار العولمة قوسين انفتحا وفي طريقهما للانغلاق.

وبين أن أغنياءنا وساستنا ينظرون من زجاج بيوتهم الى ما يفعله الفقراء الذين اذا ما نجحوا سينزل أولئك الساسة والاغنياء ويتحولون الى مواطنين.

وقال إننا سنعود الى عالمنا الصغير ومزارعنا ومستشفياتنا ولغاتنا التي تضمحل ورقصاتنا التي ستختفي. سيقول أذكيا العولمة إن هذا وهم لكن ما هو غير الوهم؟

كانت الشيوعية تبيع وهم المستقبل.

عندما بلغت العولمة أوجها ابتكرت آلتها الاعلامية جملة (العولمة السعيدة) التي صارت برنامجاً لصناع القرار في أروبا. يكفي أن نرى الشروخ التي تهدد عالم اليوم بالانتصار.

وخلص الى ان ما بعد العولمة بإنقاذ العولمة لتصبح قادرة على توفير مياه الشرب للجميع وحل قضية فلسطين، واقناع العالم بإيجاد صيغ للنمو المتكافئ. ولابد أن تجد العولمة حلاً للهوة التي تكبر بين عالمين أحدهما ينتج الأذكياء والآخر على العكس منه.

وشهدت الندوة مداخلات من بعض الحاضرين ركزت على أيجاد إجابات لسؤال ماذا بعد العولمة. وتستمر جلسات الندوة اليوم الأحد بجلستين متتاليين.

يذكر أن فعاليات موسم أصيلة الاربعين انطلقت في التاسع والعشرين من شهر حزيران الماضي وتنتهي في الثاني والعشرين ومن شهر تموز الجاري ويشارك فيها عدد كبير من المفكرين والخبراء والساسة والأدباء والفنانين.