الخميس: 24. 11. 2005


هل من الممكن لأدوات وعلوم مهنة الرحمة والإنسانية أن يتم استخدامها لأغراض التعذيب والقتل· التاريخ الحديث يجيب على هذا السؤال بنعم واضحة وقاطعة من خلال قائمة مفزعة من الوقائع والأحداث· أشهر تلك الوقائع، ربما كانت تلك التي جرت قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، أثناء الحكم النازي لألمانيا· ففي أثناء تلك الفترة ظهر ما عرف بملاك الموت أو طبيب الموت، وهو الطبيب الألماني ''جوزيف منجل'' المسؤول الطبي عن معسكر الاعتقال في ''أوشفيتز''· حيث قام ''منجل'' بالعديد من التجارب الطبية على المعتقلين، متغاضياً عن قواعد الأخلاق الطبية برمتها، ومتجاهلاً أساسيات الرحمة والإنسانية· فعلى سبيل المثال، حاول ''منجل'' تغيير لون العينين، من خلال حقن مواد كيمياوية ملونة في عيون الأطفال· وفي أحيان أخرى قام بعمليات بتر للأعضاء، أو تجربة إجراءات جراحية على المرضى، لا أساس لها في الطب، بغرض دراسة تأثيراتها النهائية على الجسد البشري وعلى الأعضاء الحيوية· ولم تقتصر هذه الوحشية الطبية على الألمان، بل شاركهم فيها أيضاً اليابانيون· وبالتحديد الوحدة 731 سيئة السمعة، والمتهم أفرادها وأطباؤها، بتشريح أسرى الحرب الأميركيين وهم أحياء، ونزع أعضاء من أجسادهم دون تخدير· وتُتهم هذه الوحدة بأنها استخدمت كائنات جرثومية لدراسة تأثير الأوبئة على الشعوب والمجتمعات· وبمرور الوقت، استمر استخدام الأساليب والمعرفة الطبية في التعذيب، ليس بهدف البحوث والدراسات كما كان الوضع مع الألمان واليابانيين، بل للحصول على اعترافات من المتهمين بالإرهاب أو غيره، أو كنوع من العقاب البدني للمساجين والمعارضين السياسيين·
وبوجه عام تُقسم الجريمة الطبية في حالات التعذيب إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول: يقوم فيه الطبيب أو أحد أفراد الطاقم الطبي بتنفيذ إجراءات التعذيب بنفسه، وبشكل مباشر· أما النوع الثاني، فيتهم فيه أفراد الطاقم الطبي بالتواطؤ الإجرامي، من خلال تجاهلهم وتغاضيهم عن مظاهر التعذيب في السجون والمعسكرات التي تخضع لإشرافهم، أو أحيانا من خلال توفير المساعدة والعون الفني على إخفاء مظاهر التعذيب· أشهر الأمثلة على النوع الثاني، هو التقرير الصادر في بريطانيا عن الدورية الطبية المرموقة ''لانست'' (المجلد رقم ،364 العدد رقم ،9435 الصفحة رقم 725)، حول مسؤولية أفراد الطاقم الطبي أثناء عمليات التعذيب التي جرت في السجون العراقية خلال عامي 2003-·2004 في هذا التقـــرير وعنوانه ''أبوغريب: آثاره على الطـب العسـكري Abu Ghraib: its،
'' legacy for military medicine
وجهت الاتهامات المباشرة والصريحة لأفراد الطاقم الطبي، والبالغ عددهم سبعين، بالتواطؤ الإجرامي، والاشتراك غير المباشر في عمليات التعذيب· وبنى ''ستيفن ميلز'' كاتب التقرير، وهو أستاذ لأخلاقيات الطب في جامعة مينسوتا الأميركية، اتهامه على أساس أن جميع أفراد الطاقم الطبي، كانوا على علم تام بما يجري في السجن، حيث كثيراً ما كانت تنتهي حالات التعذيب في عيادتهم· ولكن رغم هذا، لم يقم أي من أفراد الطاقم بإطلاق صفارة الإنذار، أو بإخبار مرؤوسيه عما يحدث بشكل يومي متكرر· ويذهب الكاتب في اتهاماته إلى أبعد من ذلك، مرجحاً أن أفراد الطاقم الطبي كانوا يساعدون زبانية السجن على إخفاء آثار التعذيب الذي يمارسونه ضد المعتقلين، إما من خلال العبث بالملفات الطبية، أو من خلال تزوير سبب الوفاة لمن لقوا حتفهم بسبب التعذيب· وربما أيضاً كان أفراد الطاقم الطبي يدلون زبانية السجن على أفضل الطرق، التي يمكنها أن تسبب أكبر قدر من الألم والعذاب للمسجون دون أن تترك آثارا واضحة على جسده أو أن تؤدي إلى وفاته·
أما النوع الثالث من التعذيب الطبي، فيمكن أن نطلق عليه صفة الإهمال الطبي المتعمد· وفي هذا النوع يتعمد الطبيب أو المسعف تجاهل احتياجات المريض الطبية بغرض إلحاق أكبر قدر من الضرر أو الألم· مثل حجب مسكنات الآلام عن المرضى الذين يعانون من آلام مبرحة، بسبب الإصابة الجسيمة أو الحروق الخطيرة، أو تحريك المصابين بكسور دون مراعاة القواعد السليمة· أفضل مثال تاريخي على هذا النوع، ربما يكون ما حدث للناشط الفلسطيني محمود المصري، أثناء احتجازه في أحد سجون غزة للاستجواب في السادس من مارس عام ·1989 فعلى الرغم من أن محمود المصري أصيب بانفجار في قرحة معدية، نتج عنه نزيف داخلي، فإن الطبيب الإسرائيلي المشرف على السجن امتنع عن تقديم أي علاج أو إسعافات له لفترة أربع وعشرين ساعة، لقي بعدها السجين حتفه· ويجادل البعض بأن مثل هذا التصرف لا تنطبق عليه صفة التعذيب، ولا يزيد عن كونه إهمالاً متعمداً في تأدية الواجب·
ولكن إذا كان حجز شخص ينزف بغزارة لساعات وساعات، في غرفة ضيقة موصدة الأبواب، لا يرقى إلى صفة التعذيب، فما هو التعذيب إذاً؟
مثل هذه القسوة البشرية التي تستخدم العلم والمعرفة الطبية في إلحاق أكبر قدر من الأذى بالآخرين، دفعت المجتمع الدولي إلى سنّ الكثير من القوانين، وعقد الكثير من الاتفاقيات، على أمل توفير قدر من الحماية للمرضى والمساجين من أطبائهم· أول تلك الجهود ربما كان ''إعلان جنيف'' الصادر عن الجمعية الطبية الدولية
(World Medical Association) في عام ،1948 والهادف إلى استبدال قسم ''أبوقراط'' التاريخي، الذي أصبح لا يفي بالغرض في العصر الحديث· ولذا يحمل إعلان جنيف قسماً جديداً للأطباء، هو: ''أقسم أنا الطبيب، أن أحافظ على أكبر قدر من الاحترام للحياة البشرية منذ بدئها، حتى في ظل التهديد· وأقسم أنني لن أستخدم أبدا معرفتي أو علمي بشكل أو طريقة مخالفة للقوانين والحقوق الإنسانية''·
وفي عام ،1975 أصدرت الجمعية الطبية الدولية وثيقة جديدة ضد التعذيب الطبي، عرفت بـ''إعلان طوكيو''، ونصت على أنه: ''لا يجب على الطبيب أن يشجع، أو أن يغفر أو يتغاضى عن، أو أن يشارك أو يؤيد، في أي شكل من أشكال التعذيب أو ممارساته''· وبالنظر إلى ما حدث في العراق في السنوات الأخيرة، وما زال يحدث في الكثير من بقاع العالم، نستطيع أن نصرح وبكل ثقة، بأن كل تلك الإعلانات ومعها أغلظ الأقسام، لم تؤتِ ثمارها بعد·


د· أكمل عبد الحكيم