عصام نعمان

رجل العام هو بل ظاهرة العصر. لعله الزعيم السياسي الوحيد الذي يستحق صفة العالمية. فاض بطلّته الآسرة ولونه الاسود وجدّيه لأمه الأبيضين وأبيه المسلم وشعار التغيير ومتعة التعبير عنه بصوت جهوري دفيء ومقنع.. فاض عن حدود بلاده على العالم، فأصبح طيلة عشرين شهراً قد تطول الى سنوات، ظاهرة مثيرة للجدل وللأمل ومحط أنظار مئات الملايين ومستودعاً لتوق وشوق متقدين لتغييرٍ شامل وواعد.

باراك حسين اوباما خليط عجيب من عناصر متنوعة قد تبدو متناقضة ومع ذلك ذابت وانصهرت كأن يداً ميتافيزيقية خلطتها وحوّلتها مزيجاً لافتاً لامعاً ومسكوباً في شخصية كاريزمية نوارة.

مئات ملايين الأمريكيين اختاروه وانتخبوه بحزم وتصميم وحماسة ldquo;حتى فقدان الحواسrdquo;، على حد تعبير أحد الصحافيين، ليصنعوا بصعوده نهايةً حاسمة ومبرمة لظاهرة أخرى كريهة قاتمة ومؤلمة اسمها جورج دبليو بوش. وعلى مدى المعمورة تجاوب مع الأمريكيين أفرادٌ وجماعات وشعوب وrdquo;انتخبواrdquo; مثلهم داعية التغيير، واحتفلوا واحتفوا معهم بالنصر العظيم.

أيّ تغيير يريده اوباما لأمريكا والأمريكيين وربما للعالم ؟

في تواصله الحار مع الجمهور، بدا التغيير حاجة ومطلباً اكثر مما هو برنامج وخطة. لذلك حرص الرئيس المنتخب في خطبة الاحتفال بالنصر على التأكيد ان التغيير ليس مجرد قرار بل هو مسار يطول سنوات وقد يتطلب أكثر من ولاية واحدة.

اوباما محيط، دونما شك، بأسباب الأزمة المالية الحادة التي تعصف ببلاده. معارض هو، شأن معظم الأمريكيين من ديمقراطيين وجمهوريين، لخطة بوش في معالجتها وإن كان أيدها على مضض في الكونجرس ليتفادى تهمة جاهزة بأنه يتقصّد عرقلة جهود الإدارة ldquo;الإنقاذيةrdquo; في هذا السبيل. هو لم يطرح في تواصله مع الجمهور برنامجاً متكاملاً للإصلاح والإنقاذ، ومع ذلك فإن التدابير التي لوّح بها تشي بنكهة راديكالية هي أقرب ما تكون الى الديمقراطية الاجتماعية. لعل هذا الاتجاه ما حمل سيفر بلوتسكر في صحيفة ldquo;يديعوت احرنوتrdquo; على الاستنتاج بأن أمريكا، في ظل اوباما، تودع الرأسمالية المتوحشة وتتجه يساراً، وبقوة.

هل سيكون لسياسة اوباما التغييرية مفاعيل وتداعيات خارجية؟

من المنطقي ان يحدث ذلك. فالأزمة المالية العاصفة متعددة السبب، ومعالجتها لن تقتصر على إصلاحات محلية بل سيكون بعضها بالضرورة عالميا. هذا ما يفسر حرص رؤساء الدول على عقد اجتماعات ومؤتمرات دولية متعددة بقصد التفاهم والتنسيق، خصوصاً في الجوانب التي تتطلب تعاوناً دولياً وقرارات جماعية.

غير انه من المهم ايضاً التأكيد أن اوباما ملتزم بالتغيير في أمريكا وليس خارجها. صحيح ان تدابيره الإصلاحية ستمس، بقليل أو كثير، دولاً أخرى لكنها تبقى تدابير أمريكية، داخلية واقتصادية.

من التدابير التي ستكون لها تأثيرات خارجية المواقف والسياسات التي سيعتمدها اوباما إزاء قضايا العراق وأفغانستان وإيران وفلسطين. فهو ملتزم بموقف سحب القوات الأمريكية من بلاد الرافدين خلال 16 شهراً. صحيح انه يريد التشدد في ملاحقة بن لادن وجماعته كطريقة فعالة لاستعجال القضاء على الإرهاب والإرهابيين، لكنه يرفض ان تصبح الحرب في أفغانستان حرباً أمريكية بالدرجة الأولى.

مع إيران يؤثر اوباما بذل جهود أقوى على الصعيد الدبلوماسي ويميل الى إقصاء خيار الحرب. لكنه لم يحدد موقفاً واضحاً إزاء المسألة المركزية في الصراع الدائر وهي إصرار إيران على المضي في برنامج تخصيب اليورانيوم.

من هذا الباب، باب الموقف من إيران، سيدخل اوباما إلى معالجة قضايا المنطقة. ذلك ان أمريكا ملتزمة بأمن ldquo;إسرائيلrdquo; من جهة وحريصة على امن مصالحها في العراق والمنطقة من جهة اخرى، فلا يعقل ان تتوصل إلى تسوية مع إيران إلاّ في إطار ضمان تنفيذ هذين الالتزامين.

هذا ما يفسر اطمئنان ldquo;إسرائيلrdquo; الى فوز اوباما حتى قبل إعلانه. فقد حسم رئيس الحكومة إيهود اولمرت الأمر بقوله: ldquo;سواء أصبح اوباما او ماكين رئيساً، فسيكون صديقاً لrdquo;إسرائيلrdquo;rdquo;. هذا مع العلم ان اوباما حرص في أثناء زيارته لrdquo;إسرائيلrdquo; قبل انتخابه على التصرف كصهيوني أصيل : ذهب إلى حائط المبكى وصلىّ ووضع فيه قصاصة ورق ضمنها ادعيته وتمنياته. أكثر من ذلك، لم يأتِ على ذكر حصار غزة بل تعاطف مع المستوطنين وشبههم بالمهاجرين القدامى إلى أمريكا !

رغم كل المؤشرات السابقة لانتخابه واللاحقة له، فإن استبشار العرب به ظلّ سائداً. زعيم ldquo;حماسrdquo; خالد مشعل أبدى استعداد الحركة ldquo;للتعامل بعقل منفتح مع أي إدارة أمريكية ما دامت تحترم مصالح المنطقةrdquo;. وزير الإعلام السوري محسن بلال أمل ان يسهم فوز اوباما في ldquo;تغيير سياسة واشنطن الخارجية والانتقال من سياسة الحروب والحصار الى سياسة الدبلوماسية والحوارrdquo;. العاهل الأردني عبد الله الثاني كان أكثر تفاؤلاً فدعا الرئيس الأمريكي المنتخب الى ldquo;إحلال السلام في المنطقة وحل الصراع الفلسطيني ldquo;الإسرائيليrdquo; على أساس حل الدولتينrdquo;.

الحقيقة ان قدرة اوباما على التغيير في الخارج كما في الداخل تبقى محكومة باعتبارات عدة. فهو، في الواقع، قابلة التغيير أو واسطته، وفي أحسن الأحوال قاطرته، لكنه بالتأكيد ليس صانعه. ثمة عوامل كثيرة مؤثرة تحدّ من قدرته على الفعل.

هناك، أولا، الثقافة العامة السائدة التي تنطوي على قيم وأفكار وسلوكيات حاكمة لا يستطيع أهل السياسة تجاوزها. في مقدم هذه الأفكار والسلوكيات النظرة إلى ldquo;إسرائيلrdquo; ومكانتها في العقل الجمعي الأمريكي. فهي تكاد تماثل من حيث القيمة والوزن إحدى الوصايا العشر في التوراة والأرض التي سيأتي اليها السيد المسيح من جديد. من هنا تنبع صعوبة بل استحالة نقد ldquo;إسرائيلrdquo;، ناهيك بالضغط عليها لتغيير سياستها !

إلى ذلك تلعب المؤسسة الحاكمة أو ldquo;الاستبلشمانتrdquo; دوراً مركزياً في توجيه اللعبة السياسية وإدارتها. هذا اللاعب الأساس يمسك بعدد من المصالح الاستراتيجية ويتمسك بعدد آخر من التقاليد السياسية ما يجعله دائماً نصيراً مجنداً في خدمة ldquo;اسرائيلrdquo;. اوباما يعرف هذا الواقع ويحاول دائما التكيّف مع مقتضياته ليضمن مصالحه ويحمي تطلعاته.

غير ان العامل الافعل في الحدّ من قدرة اوباما على التغيير في المنطقة هو غياب دافع مؤثر وقوة فاعلة لتبرير القيام به او حتى محاولة ذلك. فالعرب جميعا، عرب الايديولوجيا كما عرب الجيولوجيا، لا يشكلّون قوة سياسية وازنة ولا يمارسون على كل حال أي ضغط على الادارة الامريكية لحملها على احترام مصالحهم، فما بالك بحمْلها على ممارسة ضغط على ldquo;اسرائيلrdquo;. وعندما لا تشعر الادارة الامريكية بأي ضغط عليها لاحترام حقوق العرب ومصالحهم، فلا سبيل الى ان تقوم من تلقاء نفسها بالضغط على ldquo;اسرائيلrdquo; لتفعل ذلك لأن الدول ليست جمعيات خيرية ولا تقدم بالتالي خدمات مجانية لأحد.

الأنكى من ذلك كله ان بعض العرب لا يكتفي بالامتناع عن ممارسة ضغط على امريكا كي تحترم المصالح العربية بل يجاري سياستها في المنطقة حتى حدود التماهي معها. بل ثمة بينهم من يعتقد ان الاحكام تتبدل بتبدل الازمان وانه في زمن الارهاب بات التنسيق مع ldquo;اسرائيلrdquo; وحتى التحالف معها حاجة ملحة لدرء الإرهابيين الذين تحرص دولة العدوان على ان تحشر معهم اهل المقاومة الشرفاء ممن أبلوا البلاء الحسن في مواجهتها.

التغيير الذي وعد به اوباما شعبه لن ننال منه، على الارجح، شيئاً مفيداً طالما نفتقر الى قوة ضاغطة يشعر معها الغير، لا سيما الامريكيون، بأننا جديرون بالاحترام لكوننا قادرين على ان ننفع أو نضرّ.

لن يغيّر اوباما او غيره في حالنا ولصالحنا حتى نغيّر نحن ما في انفسنا ونفعّل ارادتنا، يجب ان نتغيّر نحن اولاً حتى نتمكّن من أن نغيّر غيرنا.