طلعت رميح

بدأ الجيش الامريكى فى تنفيذ خطة اوباما، فى نقل التركيز من العراق الى أفغانستان، إذ المعنى فى القرار الذي أعلنه قائد المنطقة المركزية الأمريكية(الجيوش الأمريكية المكلفة السيطرة على الشرق الاوسط) باعتزام الجيش الامريكى إرسال نحو 3 أولوية جديدة إلى أفغانستان، واستدراكه بان ذلك سيجرى من خلال تخفيض عدد القوات الأمريكية فى العراق، هو ان الجيش الامريكى بدأ فعليا إنفاذ خطة اوباما، التي أعلن عنها خلال مرحلة الانتخابات وبعد فوزه بالرئاسة التركيز على أفغانستان لا العراق التي أعلن انه سيسحب قواته منها خلال 16 شهرا.
وفى واقع الحال، ان بدء خطة اوباما هذه، قبل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، هو درس فى الديمقراطية، حيث يجرى الانتقال من إدارة إلى أخرى بطريقة تحافظ على استقرارا خطط ومصالح الدولة ndash; بغض النظر عن رأينا فيها - كما هو أمر طبيعي، على اعتبار ان الرئيس الامريكى الحالي قاب قوسين أو أدنى من ترك البيت الأبيض، وبالنظر الى ان وزير الدفاع الحالي روبرت جيتس، هو ذاته وزير الدفاع في إدارة اوباما، وكذا يمكن القول ان الأمر يأتى لضرورات عسكرية quot;حادة وحقيقيةquot; فى ضوء التطور الكبير لعمليات طالبان فى افغانستان، ولتنامي قوتها وسيطرتها، وبعد امتداد عملياتها ونفوذها الى مناطق جديدة (الشرق)، بما وسع رقعة المواجهة، التى بدورها تتطلب زيادة عدد قوات الاحتلال. كما يمكن القول ان تسريع إنفاذ خطة اوباما يأتى استثمارا لحالة الاضطراب التي تعيشها باكستان الآن، لتصاعد التوترات على حدودها مع الهند، اذ مثل هذا الوضع يمنح القوات الأمريكية فى أفغانستان فرصة أوسع لتكثيف عملياتها الجوية داخل الاراضى الباكستانية فى منطقة القبائل، الداعمة لحركة طالبان فى افغانستان. لكن اللافت ان هذا التطوير لوضع القوة العسكرية الأمريكية، قد ترافق مع تصريحات امريكية هى الاولى من نوعها ndash; بهذه الدرجة من الوضوح- بإمكانية التفاوض مع ما سمى بـquot;عناصر معتدلة من حركة طالبان (وهو ما يذكرنا ببدء الحوار فى الصومال مع الشيخ شريف) بما يحمل دلالات مهمة حول طبيعة الخطة الأمريكية الجاري إنفاذها فى افغانستان، اذ هى تطرح ان الضغط العسكرى رغم هجوميته على المستوى العسكرى من الصراع،الا انه يعكس كيلا الى التنازل السياسى، باعتبار ان جانبا من اهداف التصعيد هو هدف تفاوضى، بعد ان فقد الامل فى تحقيق نصر عسكرى.
لكن الاهم هو ان تطبيق خطة اوباما المعلن عنها منذ فترة، قد تخطتها الإحداث بعدما تغيرت الاوضاع على الارض وتحولت الى حالة جديدة. لقد جرت تطورات ذات صبغة استراتيجية فى هذه المنطقة من العالم، تتخطى خطة اوباما بمجرد زيادة عدد القوات، او الدخول على لعبة تقسيم طالبان او فى استثمار توتر وتصاعد حدة الصراع الباكستانى ndash;الهندى..الخ .وهو ما يطرح دلالات أوضح وابعد لخطة اوباما من مجرد التركيز على مصدر الإرهاب والقبض على بن لادن وغيرها بما يعيدنا الى الخطة الاصلية للولايات المتحدة فى السيطرة على تلك المنطقة.
صراع إقليمي شامل
فى الملمح الأول حول اتجاهات الأحداث الجديدة الجارية فى تلك المنطقة، هو اننا صرنا نقترب اكثر من تحول الصراعات فى تلك المنطقة الى نمط صراع اقليمى شامل تترابط فيه كل الصراعات الجارية فى المنطقة وكأنها حالة متوحدة. لقد صارت دول المنطقة المشكلة من الهند وباكستان وافغانستان فى حالة صراع ووضع متفجر لكل قضاياها دفعة واحدة وبشكل لا يمكن حل إحداها منفردة.
الآن تتداخل قضايا امن الهند واستقلال كشمير والجماعات الإسلامية المسلحة في باكستان والصراع المفتوح في أفغانستان، لتصبح سلة واحدة من المشكلات التي لا يمكن حل واحدة منها دون الاخرى. فى السابق كان الصراع بين الهند وباكستان يحتوى فى داخله قضية الصراع حول كشمير، ضمن حالة الثأر التاريخي بين البلدين، الذى كان حسم الجانب الكلى منه على مستوى التهديد الشامل لباكستان، بانتاج السلاح النووى المكافىء للقوة والقدرة الهندية (البشرية والجغرافية والاقتصادية) وللقوة النووية الهندية ايضا. وكان الصراع على افغانستان منحصرا فى حيزها البشرى والجغرافى خلال حكم طالبان. لكن الاوضاع تتداخل او تنفتح الآن ndash;وبشكل خاص وفق مقولات ومفاهيم الحرب على الارهاب ndash; لتشمل قضايا الاستقرار الداخلي فى الهند وباكستان وأوضاع الصراعات الجارية فى باكستان على الحدود مع افغانستان والصراع الجاري فى أفغانستان ذاتها، بما يجعلها quot;ازمة واحدةquot;.
لقد اصبح استقرار الهند مرتبطا بحسم الصراعات الجارية داخل باكستان ndash;على رؤية الهند التى تقول بان مصدر اعمال التفجير فى داخلها قادم دوما من باكستان ndash; كما البادى الا استقرار فى باكستان الا بحسم المشكلة والصراع الافغانى، بعد ان تشكلت حركة طالبان الباكستانية كامتداد لحركة طالبان الافغانية، والا بتوقف القصف الجوى الامريكى فى داخل الحدود الباكستانية باعتباره يلعب دورا فى تأجيج مشاعر الشعب الباكستانى ضد الحكم المركزى فى باكستان. وكذا يبدو النفوذ والدور الهندى المتنامى فى افغانستان -حسبما ترى باكستان ndash; هو امر مانع لإعادة الهدوء الى العلاقات بين البلدين، اذ ترى باكستان ان هذا الدور الهندى يستهدف تطويقها فى العمق الاستراتيجى لها (أفغانستان).
ولقد رأينا طبيعة الارتباط او تصاعد درجة الارتباط بين كل مشكلات المنطقة على اكثر من صعيد، لعل الاهم منها، ان التهديد الباكستانى بسحب القوات العسكرية من مناطق الحدود مع أفغانستان ،وتحويلها باتجاه الحدود مع الهند إذا تطورت التهديدات الهندية نحو الحرب (وهو اخشى ما تخشاه القوات الغربية فى افغانستان لسابق خبرة الروس الذين هزموا جراء فتح الحدود بين باكستان وأفغانستان).
لقد ربطت باكستان بقاء جيشها ليقاتل الى صف القوات الغربية فى افغانستان ndash;داخل حدود باكستان بمنع التواصل بين طالبان بشقيها الافغانى والباكستانى - بدور امريكى واوروبى ضاغط على الهند لوقف تصعيدها ضد باكستان. اختلطت الأوراق واتسع نطاق المناورات الاستراتيجية، ودخلت تلك المنطقة من العالم حالة الصراع المتعدد المجالات والمتفجر فى مناطق عدة.
ساحة صراع دولى
والملمح الثانى، فى التحولات الجارية فى ازمات تلك المنطقة هو اننا امام تحول تلك البقعة من العالم الى ساحة صراع دولى بامتياز، وعلى نحو فاعل ومباشر من كافة القوى الدولية. لقد اصبحت مصالح وقوات اكبر دول العالم (القديمة والجديدة الصاعدة)على مقربة من بعضها البعض هناك. حلف الاطلنطى الذى يضم كل الدول الاوروبية الرئيسيةهناك، والقوات الامريكية،هناك والصراع يجرى على مرمى حجر ومراقبة من الصين وروسيا. وتسليح الهند وباكستان يجرى بشكل مباشر من كل الدول الكبرى. والمعارك تجرى فى افغانستان وباكستان وتمتد بطريقة او بأخرى الى داخل حدود الهند وباكستان. وعلى مقربة من كل ذلك تجرى اعمال القرصنة فى بحر العرب، والامور متدهورة فى الخليج العربى حيث الاحتشاد للقوات العسكرية الامريكية امتدادا الى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين.
لقد أصبحت المنطقة الممتدة من الهند وحتى لبنان ndash;وصعودا الى جورجيا ndash; هى منطقة حزام النار فى العالم. وفى حدود المنطقة الهندية الباكستانية الأفغانية، فقد شهدنا كيف تفاعلت قضية الهجمات على قوافل الإمداد والتموين لقوات الاطلسى عبر باكستان لتخرج من كونها قضية باكستانية امريكية افغانية، الى قضية دولية بامتياز، حين باشرت الولايات المتحدة ودول الاطلنطى مفاوضات واتصالات مع روسيا وقرغيزستان واوزبكستان لاجل مرور تلك الإمدادات عبرها جوا وأرضا، بما جعل تلك القضية احدى قضايا العلاقات والصراعات الدولية، او هو ما ادخل روسيا مباشرة على خط الصراع وهى التي كانت هددت من قبل بتحويل أفغانستان الى فيتنام أخرى، بما يعنى أنها لن توقف فقط مرور رحلات الامداد والتموين بل هى ستسلح الافغان لمواجهة حلف الاطلنطى واستنزافه كما فعلت مع الفيتناميين خلال تلك الحرب التى انتهت الى هزيمة الولايات المتحدة.
كما شهدنا كيف ان احداث مومباي،انتقلت من كونها قضية هندية داخلية الى قضية هندية باكستانية ثم الى قضية تتعلق بالتصرفات السيادية لباكستان فى داخل حدود الدولة، بعد ان جرى تطويرها الى قضية ارهاب دولى، تدخلت فيها مختلف الأطراف والقوى الدولية. وقد رأينا كيف ان ما اعلن عن حوار بين كرازاى وحركة طالبان، لم يكن فقط حالة تتعلق بالصراع بين طالبان والقوى الغربية ،ولكن الأمر امتد ليشمل الإقليم عبر الدولة العربية التى انتدبت لاداء هذا الدور او عبر تدخل الدولة المجاورة ndash;إيران ndash;التى اعلنت رفضها للحوار مع طالبان، وهى ذات الدولة التى تمتد صراعاتها ومصالحها الى مختلف دول الاقليم، بما زاد من البعد الاقليمى للصراعات الجارية فى تلك المنطقة ووسعها، خاصة بعد انتشار قوة بحرية هندية فى بحر العرب ،وقيامها بمواجهة عسكرية مع القراصنة.
باكستان هى الهدف
والملمح الثالث فيما يجرى فى تلك المنطقة، هو ان باكستان باتت معرضة الى حالة متنوعة من التهديدات والضغوط، بما قد يحقق الرؤية التى اشار إليها واحد من أهم الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين فى دراسته المعنونة (حدود الدم) والمنشورة فى مجلة القوات الجوية الأمريكية، حين أشار إلى تفكيك باكستان التي وصفها بدولة مصطنعة، وتشكيل دولة البشتون التى ستضم ndash; حسب رؤيته ndash; قبائل وعرقية الباشتون فى كل من باكستان وأفغانستان وهو ما يحقق حلم الهند فى إنهاء وجود دولة باكستان لتصبح الهند هى ذاتها جنوب آسيا والمسيطرة على هذا القطاع الحيوي من العالم، ولتكون فى وضع أقوى فى مواجهة الصين ndash;على اعتبار ان باكستان هى حليف للصين-وهو ذاته ما يحقق الحلم الإسرائيلي فى انهاء امتلاك باكستان للقوة النووية ..الخ.
البادي اننا أمام تطور نوعى فى الأوضاع الكلية او الاستراتيجية لباكستان إذ باتت المهددات لوجود الدولة (ولا نقول استقرارها فقط) ولاستمرار تماسك المجتمع وبقائه موحدا، تهديدات متعددة وحادة. لقد صارت باكستان هى قلب الصراع المجارى فى المنطقة، إذ تحيطها وتهددها الهند من جانب، وقوات الاطلنطى والقوات الأمريكية من جانب آخر (وكلاهما فى صراع يتعلق بقضايا الداخل الباكستاني)، كما صارت المهددات الداخلية اخطر واعمق ،سواء للدور الخارجي فى تفعيلها او المساهمة فى تحديد اتجاهات احداثها، او بحكم درجة الصراع التى وصلت الى حد استخدام السلاح بين الدولة والقبائل والحركات السياسية واستمرارها لفترة طويلة دون قدرة من الدولة على حسم الصراع، ولان كل ذلك يجرى والدولة فى اخطر الأوضاع الاقتصادية تدهورا، بعد ان باتت باكستان مهددة بالإفلاس وهو ما ورد فى طلبها عدة مليارات من صندوق النقد والبنك الدوليين.

اوباما ..وأفغانستان
فى ظل كل التطورات، يؤتى بدء تطبيق خطة اوباما، بالتركيز على أفغانستان، وهو ما يثير التساؤلات حول فرص نجاح خطته فى ظل تلك الأوضاع المستجدة. لقد جاءت القوات الأمريكية الى أفغانستان تحت شعار القضاء على القاعدة وحركة طالبان، لكن طبيعة الأهداف الأمريكية لم تكن كذلك فقط، اذ اتضح انها تستهدف الاطلال على الصين وروسيا وإيران وباكستان ودول آسيا الوسطى، وهى اذ فشلت فى القضاء على طالبان وجاء اوباما وفق رؤية بتوسيع وجود وحشد القوات الأمريكية، فان بدء تنفيذ الخطة بات مطاردا بعوامل متعددة، منها فشل الخطة السابقة اذ قويت طالبان ولم تضعف ومنها إنهاك القوات الحليفة - قوات الاطلنطى - وتصاعد ضغوط الرأي العام الداخلي فى كل بلدان الاطلسى للانسحاب من هناك، وكذا يأتي تطبيق الخطة وأوضاع الاقتصاد الامريكى-المحرك للقوة العسكرية - فى حالة من الانهيار. والأخطر ان بدء إنفاذ الخطة يأتي وأوضاع الإقليم باتت فى حالة عميقة من التفجر بما يطرح احتمالات اتخاذ قرار استراتيجي أمريكي مختلف وفق المحددات للقدرة والدور والأهداف الأمريكية والتغييرات الكلية الحادثة فى المنطقة. وبمعنى آخر فان الخطة المعلنة من قبل اوباما، باتت تفرض التعامل مع مختلف القضايا، وذلك ما سيكشف أبعاد الخطة الأمريكية الأصلية من جهة وما يضع اوباما أمام مواجهة تحديات استراتيجية أعمق واخطر من تلك التي تعرض لها حكم جورج بوش.