مشاري الذايدي

قد يكون حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، محقا في نفي تهمة الطائفية الضيقة عن نفسه وحزبه، في خطبته الرمضانية التي ألقاها مؤخرا وقدم فيها مرافعة طويلة عريضة في الدفاع عن حزبه ونفي تهمة الطائفية عنه.

نعم قد يكون محقا إذا ما اعتبرنا الطائفية هي التي يقدمها لنا المتوترون من المعممين على الإنترنت أو الفضائيات الكثيرة، ذاك أن حزب الله، كما قال أمينه العام، ينطلق من حسابات أكبر وأوسع من حسابات قراء المآتم الحسينية، فهو حزب لـlaquo;الأمةraquo; ويتبنى مسؤولية الأخذ بحقوق الأمة الإسلامية، وأضاف لها السيد في النسخة المعربة من أدبيات الخميني laquo;الأمة العربيةraquo;، وعلى هذا الأساس تصبح شواغله وخيالاته أعظم من شواغل أو خيالات شيخ أو معمم في إيران أو العراق وغيرهما.

وهو محق أيضا حينما تحدى أن يأتي أحد له بخطاب يستعيد فيه نقائض الهجاء بين السنة والشيعة، أقلها قبل عام 1990 كما نبه هو شخصيا باعتبار أن الحزب لم يأخذ شكله النهائي بعد على مستوى الخطاب والرؤية السياسية والآيديولوجية.

غير أن هذا، للأسف، لا ينهي مسألة التوتر الطائفي الذي نلمسه باليد في طول العالم الإسلامي وعرضه، خصوصا العالم العربي منه، فنحن نشهد هذا التناطح الطائفي السياسي في كل نزاع أو اختلاف، من العراق، حيث التوتر على أشده، إلى باكستان، حيث حرب الميلشيات السنية الشيعية، إلى أفغانستان إلى الهند، وبشكل كلامي في الكويت والبحرين والسعودية، إذ يفور الكلام الطائفي نوافير ساخنة تطلق الغابر والحاضر من صراعات التاريخ والدين والسياسة منذ 1400 سنة.

الحق أن المسألة أعقد من بساطة وبداهة المرافعة التي قدمها حسن نصر الله، فلا يعتقد أحد، من العقلاء، أن التوتر الحالي يحل بالكف عن تناول المسائل الدينية الخلافية بين السنة والشيعة، وهي خلافات لن تحل بسبب انبناء الجدل فيها على اعتقاد مسبق بتمامية الحق لدى كل طرف، وهو صراع على: من هو الأجدر بتمثيل روح الإسلام الحق، لكنه ليس صراعا لاهوتيا كلاميا فقط، بل انه ينطوي أيضا على صراع سياسي عميق ومزمن حول القيادة والنفوذ السياسي، وشئنا أم أبينا هكذا انجدل الدين بالسياسة بالتاريخ لدينا، هكذا أصبحنا في تاريخنا، وهكذا أمسينا، ولم نتغير، ولا ندري إن كان يمكن لنا أن نصحو يوما ونحن قد غادرنا هذا القاموس الملتهب من صراع التاريخ والسياسة والطائفية.

كيف نستطيع، أو هل نستطيع حقا، فرز الخيوط المتشابكة بين السياسة والتاريخ والطائفية؟ لم يحصل هذا قط، فما الذي يجعلنا نتفاءل الآن بإمكانية أن نغادر هذه اللغة وهذا الخيال الدامي؟

يحاجج البعض بأننا لم نكن كذلك، ولم يكن الشيعي يشعر بالغربة مع السني ولا السني مع الشيعي، وكانت العوائل المختلطة والمصاهرات وعلاقات الجيرة، هي الأساس في العراق أو لبنان.. وربما الكويت وباكستان، فما الذي غيرنا ولوث عفويتنا؟

لكن هل يصمد هذا الكلام laquo;الرومانسيraquo; أمام ما جرى حقا في التاريخ، القريب منه والبعيد، بل إن زوال هذه البراءة، إن كانت ثمة، بهذه السرعة يدفعنا للسؤال حقا: هل فوجئنا فعلا بهذه النوافير الطائفية التي ترش سماء المنطقة؟ الطيبون يفضلون أن يشعروا بالتفاجؤ على مصرع هذه البراءة، لكن الواقع، مهما كان خشنا، يقول شيئا آخر غير هذا. يقول بأن المحرك الطائفي ظل دوما laquo;منraquo; أهم محركات تاريخنا، وحتى أكون دقيقا: الصراع الشيعي السني.

في كتابه المثير laquo;صحوة الشيعةraquo; يطرح الأمريكي من أصل إيراني (ولي نصر) أستاذ دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في الأكاديمية البحرية الأمريكية، أطروحة خطيرة خلاصتها، أن الإمكان الديمقراطي لدى الشيعة أعلى منه لدى السنة، وأن الأمريكان دخلوا على المنطقة أثناء غزو العراق دخولا خاطئا، حيث لم يدركوا تماما جذور وآثار الصراع الطائفي الإسلامي، قديما وحديثا، وهو يعتقد أن الصراع السني الشيعي هو الذي رسم تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وهو الذي يعيد رسمها الآن مجددا.

ولي نصر في كتابه الذي تلقفته النخبة الأمريكية وقرضه بالمديح نقاد كبار في أمريكا، يبدو متحمسا لأهمية الالتفات إلى أن هناك تاريخا جديدا قيد الكتابة في منطقة الشرق الأوسط، يتكشف برصد ملامح ومحطات الصراع بين laquo;الصحوة الشيعيةraquo; ومقاومة السنة لهذه الصحوة، ورغم انه يقدم نفسه ليبراليا مؤيدا للقيم الليبرالية ومتحمسا للمشروع الديمقراطي، إلا أنه يركز كثيرا على قاطرة هذه الصحوة المتمثلة بثورة ودولة laquo;الولي الفقيهraquo; في إيران، باعتبارها ركيزة هذه الصحوة وسندها.

وفي سياق استذكاري طويل يعود بنا نصر إلى لحظات الصراع الأموي الهاشمي ثم الصراع داخل البيت الهاشمي نفسه بين العلويين والعباسيين، وكيف تكونت الأكثرية السنية والأقلية الشيعية على إيقاع صراع مزمن يتحرك على أساس سؤال السلطة الشرعية ومن يمثلها حقا في الإسلام، وكيف تراكمت النظرية الشيعية السياسية، ونقيضتها النظرية السنية، مؤشرا على نقطة الانفجار الكبير وهي نقطة الصراع على تمثيل السلطة النقية الشرعية.

يمضي ولي نصر طيلة صفحات الكتاب على هذه الوتيرة مرورا بلحظات laquo;البيات الشيعيraquo; الطويل بعد اكتساح السنة للمشهد، وصولا إلى الانبعاث الصفوي، والصراع العثماني معه... وهكذا حتى نصل إلى لحظة الخميني الفاصلة، وهي المحطة التي لاحظ نصر أن الخميني اعتبر نفسه بها المؤسس الحقيقي للتشيع الجديد، بروح ثورية غير انكفائية ولا انتظارية، على ما كان عليه علماء الحوزة التقليديون، خصوصا في النجف، وكان من آخر ممثلي هذا التشيع التقليدي، المرجع الكبير أبو القاسم الخوئي، الذي كان معاصرا للخميني في النجف، ومعارضا له بشدة في نظريته حول laquo;ولاية الفقيهraquo; وفكرة laquo;الحكومة الإسلاميةraquo;.

الخميني خلق دينامكية جديدة في التشيع على مستوى العالم، وحقنه بجرعات ثورية عالية عابرة للحدود، وكان يطمح حقا الى استمرارية الثورة الإسلامية، وتحاشى تسميتها بأي اسم يوحي بمحدوديتها الشيعية، كأن يسميها الثورة الجعفرية أو ما شابه، على اعتبار أنه يرى نفسه حقا هو زعيم الأمة الإسلامية، وقبل هذا زعيم الأمة الشيعية، ولذلك كان الخميني يدعو للتركيز على عداوة إسرائيل وأمريكا، وعدم التركيز على الاختلاف الطائفي مع السنة، وهو المنهج الذي ظل حزب الله اللبناني يسير عليه (ولي نصر، ص181). ولولا الحرب مع صدام لربما مضى بمشروعه مبكرا، لكن الجيل اللاحق من تلاميذ الثورة واصل الثورة، وها نحن نشهد مع خطاب أحمدي نجاد عودة الراديكالية الخمينية، واقتحامها للمشهد برمته، ومحاولتها قضم laquo;تفاحةraquo; الشرق الأوسط اليانعة والجاهزة للسقوط، وتعبير تفاحة الشرق الأوسط، هو ما قاله بالنص ولي نصر في كتابه أثناء حديثه عن رؤية الخميني لإمكانيات نجاحه في اكتساح المنطقة. (ص146).

غير أن من أهم ما قدمه ولي نصر في كتابه واصفا طبيعة laquo;الصولةraquo; الإيرانية المتعكزة على التشيع السياسي الثوري، هي حينما قال: laquo;السنوات التي تلت عام 2001 مثلت، من عدة نواح، laquo;اللحظة البروسيةraquo; بالنسبة لإيران، تلك التي يمكن مقارنتها بحقبة النفوذ المتعاظم لبرلين الذي عرف (بسمارك) كيف يهندسه على اتساع العالم الناطق بالألمانية في منتصف القرن التاسع عشرraquo;. ثم يضيف: laquo;وفي رأيي أن الصحوة الشيعية ستعمل على توسيع نطاق النفوذ الإقليمي لإيران وتعزز مطالبتها بأن تعامل كقوة عظمى، وهذا بدوره مرتبط بطموح إيران النووي الذي يهدف إلى صيانة الدور الإقليمي للبلاد وإدامتهraquo;. (ص220). ربما يبدو هذا الكلام لبعض العرب نوعا من الشوفينية الإيرانية التاريخية، حتى ولو صدر من رجل علماني، نصف أمريكي نصف إيراني، أو قد يبدو للبعض الآخر توصيفا دقيقا لطبيعة الطموح الحاكم لدولة وأمة عريقة في المنطقة، لكن المهم مراقبة ما يجري على الأرض والتعرف على طبيعة laquo;المشروعraquo; الإيراني، الذي هو في النهاية مشروع هجومي، مهما قيل لنا عن أن إيران دولة صديقة لمعسكر الممانعة العربي، المسألة تتجاوز ذلك بكثير، ومؤلف laquo;الصحوة الشيعيةraquo; يدعو الولايات المتحدة إلى عدم اختزال الشيعة في الخميني أو نجاد، وإلى أهمية إعادة النظر بشكل شامل في معادلات المنطقة، والالتفات، أخيرا، إلى دور العامل الشيعي في تعزيز الديمقراطية في المنطقة من خلال كسر الاحتكار السني للسلطة.

حتى في العراق، الذي نسمع فيه كلاما كثيرا عن الأخوة والوطنية، نرى تجسيدات لهذه الصحوة أو laquo;الثورةraquo; السياسية الشيعية، ونرى تصريحات واضحة تشعر بأهمية هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الشيعة السياسي للدرجة التي عنون فيها المؤلف الفصل السابع من كتابه بعنوان لافت هو: laquo;العراق: الدولة العربية الشيعية الأولىraquo;.

ونقل عن عادل عبد المهدي، أحد معتدلي مجلس الحكيم، قوله في عدد ديسمبر 2003 من مجلة Smithsonian الأمريكية قوله: laquo;بوسع الشيعة الآن أن يرفعوا رؤوسهم، لقد صار بإمكانهم أن يمثلوا العراقraquo;. (ص 197).

أعرف أن هذه المطالعة قد تجعل بعض متعصبي السنة يفرحون ويعتقدون أن هذا دليل على صدق مواقفهم الإقصائية الطائفية، لكن الحق أن الطرح الطائفي كله سيئ وقبيح، ولم نجن منه إلا الحنظل، وليس علاج الهيجان الطائفي بهيجان طائفي مضاد، هذا، فوق أنه يعود بنا إلى أحط الغرائز الجمعية، إلا أنه غير مفيد، بل إنه يزيد حدة الطائفية لدى الجميع، ويغذي ميكانزمات التحدي لدى الجميع، في مناخ ملائم جدا لخطباء التعصب والتطرف، وهو المناخ الذي يخنق فكرة المدنية والمواطنة من الأساس.

نعم، إيران الحالية لديها مشروع شامل ومعقد، وهي مصممة عليه ما دامت في قبضة تلاميذ الخميني، ومصرة على أخذ من تستطيع من شيعة العالم خلفها، ولكن ليس الحل في مواجهة الطائفية بمثلها، كما يحلو للبعض، بل بالكفاح الحقيقي من أجل خلق ثقافة المدنية والمواطنة وتجفيف مستنقعات التعصب، والتصدي للملفات الإقليمية التي تنفذ منها إيران وعلى رأسها الملف الفلسطيني، وفي النهاية علينا ألا ننسى أيضا، أنه ليس صحيحا بالمطلق أن الصراع الطائفي هو المحرك الوحيد للتاريخ، لأن العدالة الاجتماعية والصراع الاقتصادي لاعب آخر لا يقل أهمية عن الصراع الطائفي، نقول هذا حتى لا ننجر خلف أطروحة ولي نصر البراقة، وحتى لا نتناسى إسهامات مثقفين وسياسيين شيعة كثر من أبناء العرب ساهموا في تأسيس التيارات القومية والاشتراكية.. بل وساهموا حتى في تأسيس حزب البعث نفسه.

قدرنا أن نعيش هذه الحقبة المتوترة وتصطدم رؤوسنا بحيطان المغارة المظلمة حتى نجد منفذا نستنشق منه الهواء النقي، ونرى منه الشمس الساطعة، ونرى بعضنا بعضا، رؤية الإنسان للإنسان، قبل أن تلقى علينا أردية الطوائف والمذاهب.