مأمون فندي

laquo;أيوب صاح اليوم ملء السماء: لا تجعلوني عبرة مرتينraquo;، كأن محمود درويش في قصيدته هذه يشرح حالنا ما بين حربين: حرب إسرائيل على laquo;حزب اللهraquo; صيف 2006، وحرب إسرائيل الأخيرة على حركة laquo;حماسraquo; في قطاع غزة. حربان ولم يعتبر العرب، ولا حتى الغرب. فالقصة ليست أنفاق رفح ولا صواريخ laquo;حزب اللهraquo; القادمة من الشمال على إسرائيل، القصة الكبرى هي ماذا بعد؟ ما الحلول الاستراتيجية التي يمكن تقديمها لمنع أن تتحول القضية الفلسطينية وبشكل نهائي من قضية سياسية تهدف إلى إقامة الدولة إلى مجرد قضية إنسانية تخص المعابر وتنقلات أهل غزة وعلاجهم؟

مرت حربان علينا ونحن تائهون في حلقة مفرغة من الدوران حول لا شيء ومن أجل لا شيء. لا يوجد مفهوم استراتيجي يمكن للأطراف أن تسوقه أو حتى تدافع عنه. المفهوم الاستراتيجي الوحيد المطروح دوليا هو حل الدولتين، لكن جميع الأطراف يتقاذفونه كالكرة. والعرب قد طرحوا مبادرتهم الشهيرة، الأرض مقابل السلام، التي اعتمدت حل الدولتين، ولكن إذا ما سألتهم ماذا يعني ذلك عمليا على الأرض، وما هي حدود فلسطين التي يريدونها، وما هي ملامح عاصمتها وكيف سيوفقون في هذا الأمر تحديدا بينهم وبين الإسرائيليين، وما هو عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين سوف يعودون؟ لم تسمع منهم ردا واضحا ودقيقا.

بداية الطريق إلى الفهم هو توسيع مفهومي الاعتدال والممانعة، فهما الآن مفهومان عربيان ناقصان لأنهما يقتصران على الطرف العربي فقط. الاعتدال والممانعة لا بد أن يشملا طرفي الصراع كليهما (العربي والإسرائيلي) كي يكون للمفهوم معنى. ومن هنا لو أردنا فهم الاعتدال والممانعة في قضية السلام بين من يريدون بقاء المبادرة العربية وبين من لا يريدون الحل على أساسها أو سحبها أو تجميدها أو إلغاءها، فنحن هنا نتحدث عن جبهة اعتدال تضم الملك عبد الله بن عبد العزيز والملك عبد الله الثاني والرئيس المصري حسني مبارك ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز، وعن جبهة ممانعة تضم الرئيس السوري بشار الأسد والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر وخالد مشعل وحسن نصر الله وزعيم الليكود المتشدد بنيامين نتنياهو والمنافس القوي على منصب رئيس وزراء إسرائيل في انتخابات نوفمبر المقبلة. في حرب جنوب لبنان لم ينتصر معسكر الاعتدال، بل انتصر معسكر الممانعة في إسرائيل وفي العالم العربي، وها هي حرب غزة قد تأتي بمعسكر الممانعة الإسرائيلي إلى الحكم متمثلا في بنيامين نتنياهو الذي تشير استطلاعات الرأي إلى تفوقه.

خطاب الممانعة في إسرائيل وفي العالم العربي يدخلنا في الدائرة المفرغة لـlaquo;اللاحلraquo; أو laquo;اللاسلم واللاحربraquo;. خطاب مقاومة على الطرف العربي وخطاب رفض للسلام على الطرف الإسرائيلي. خطاب الاعتدال هو خطاب حل الدولتين أما خطاب الممانعة بشقيها العربي والإسرائيلي هو خطاب الثلاث دول، بمعنى أن دخول إسرائيل كدولة مع laquo;حماسraquo; في حرب على غزة هو بطريقة ما اعتراف بسيادة غزة. التفاوض على قضية جلعاد شاليط مع حماس والتفاوض على الهدنة وفتح المعابر هو أيضا اعتراف بأن غزة وحدة سياسية مستقلة تتعامل معها إسرائيل بمعزل عن تعاملها مع محمود عباس والسلطة الفلسطينية.

ماذا يعني ذلك بالنسبة لدولة مثل مصر وهي دولة محسوبة على معسكر الاعتدال؟ يعني أول ما يعني أن الإسرائيليين الآن، وبذكاء، قد laquo;شيلواraquo; مشكلة غزة بأكملها على مصر. فهم يقولون بأنهم انسحبوا من القطاع، وبما أنهم في حالة حرب (رغم وقف النار) مع حركة laquo;حماسraquo; فمن حقهم إغلاق المعابر الإسرائيلية في مواجهة هذه الحركة، وبذا لن تبقى منافذ أمام غزة سوى مصر ومعبر رفح، بذا أصبحت غزة اليوم مشكلة مصرية وليست مشكلة إسرائيلية. تصور جمال عبد الناصر في وحدته مع سورية أن يضع إسرائيل بين فكي كماشة جغرافية، لكن إسرائيل اليوم تضع مصر بين فكي كماشة ايدولوجية، فنظام مبارك اليوم يحاصره إخوان حماس على الحدود وإخوان مصر في الداخل. هذه المؤامرة الإسرائيلية على مصر، التي دعمتها laquo;حماسraquo; ربما من دون وعي منها، لم تنطل على الرئيس المصري ذي الخبرة الطويلة في التعامل مع الدهاء الإسرائيلي، فقد أدرك منذ البداية أبعادها لذا كان يؤكد دائما على أن غزة ما زالت تحت الاحتلال، وبالتالي على إسرائيل المسؤولية الكاملة في أن تفك حصارها وعزلتها. وفي هذا السياق نفهم خطاب مبارك في قمة الكويت ونبرته الحادة عندما قال يجب ألا تختصر القضية الفلسطينية في غزة واختزال غزة في رفح واختزال رفح في المعبر. ولكن غياب المؤسسات المساندة للرئاسة في مصر، هو الذي عرى الموقف المصري وجعله بالصورة التي ظهر عليها خلال الأزمة. فالرئيس المصري لم يسانده أحد في إعادة تحميل غزة على إسرائيل ودفعها باتجاه التلاحم الفلسطيني من أجل الوصول إلى الرؤية التي تتلخص في حل الدولتين مقابل حل الثلاث دول الذي تسعى إليه إسرائيل لإنهاء القضية الفلسطينية: غزة والضفة وإسرائيل. أو الأربع دول: إسرائيل وغزة والضفة وجنوب لبنان، لضمان جوار ضعيف في شمال إسرائيل إلى الأبد، وبذا تصبح ما كان يطلق عليها بالسلطة الشرعية، سواء السلطة الفلسطينية أو الدولة اللبنانية، مجرد ملحق لدولة غزة ودولة laquo;حزب اللهraquo;، وغطاء سياسي مساعد وليس أصيلا.

إعادة غزة إلى الإطار القانوني للاحتلال يدفع بالقضية إلى القانون الدولي، أما لغة الممانعة الداعية إلى سيطرة حماس على غزة والمعابر فهي تصب في حل الثلاث دول، الذي هو في نهايته المنطقية يعني تصفية القضية الفلسطينية. فالممانعة من هنا ومن هناك تشترك في الرؤية ذاتها، رغم أن ممانعة العرب تظن أنها ستحرر الأرض بالمقاومة بدل التفاوض، ومن دون إدراك منها تسهم في تصفية القضية الفلسطينية على المدى البعيد.

ليس الأساس هنا الجدل حول معسكر الاعتدال أو الممانعة ومن منهما على حق، ولكن الأساس هو أن الرؤية الاستراتيجية تغيب عن كليهما، فهل من الممكن للطرفين أن يتحولا تحولا استراتيجيا بعيدا عن المهاترات والاتهامات المتبادلة؟

لن يكون التحول الاستراتيجي بانتظار ما يقدمه الخارج الأميركي أو الأوروبي من دعم للقضية، نعم للأمريكان دور وللأوروبيين دور، ولكن ما هو دور العرب، اعتدالا وممانعة؟ هل بيننا من هو مقتنع بحل الدولتين كمفهوم استراتيجي للأمن الإقليمي في المنطقة برمتها ويستطيع الدفاع عنه وتسويقه؟ دول الاعتدال مقتنعة بحل الدولتين ولكنها لم تنجح إلى الآن في تسويقه وإقناع شعوبها بأهمية هذا الحل. هل لدينا من يجرؤ على القول بملامح الحل؟ هناك عشرات الحلول الموجودة على الورق فيما يخص القدس واللاجئين وحدود الدولة الفلسطينية، وأهمها وثيقة كلينتون ـ عرفات، ولكن هل لدينا في العالم العربي من يستطيع أن laquo;يفتح صدرهraquo; ويدافع عن المفاهيم المقترحة لما يمكن تسميته بحل عادل أو مقبول للطرفين؟ عندما أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرته بزخمها، حاول بعض العرب تفريغها من جرأتها في بيروت 2002، ورفضتها جبهة الممانعة في إسرائيل في حين قبل المعتدلون الإسرائيليون بعضها بحذر. لا العرب المعتدلون كانوا قادرين على الدفاع عن السلام بجرأة ولا المعتدلون في إسرائيل استطاعوا تلقف المبادرة العربية بجرأة. الخوف والتردد المسيطر على معسكر الاعتدال في الطرفين هو الذي أعطى زمام المبادرة لمعسكر الممانعة في الطرفين أيضا.

ليس الهدف من هذا المقال إلقاء اللوم والتهم، ولكن الهدف منه هو التحفيز على التفكير بجرأة فيما نحن قادمون عليه. لا يكفي أن يدعي المعتدلون نصرا لم يحرزوه، ولا يكفي أن يفرح أهل الممانعة بنصر كانت تكلفته آلاف الضحايا في لبنان وفلسطين فيما يقارب العامين فقط، بينما لم تخسر إسرائيل سوى عشرة جنود في غزة. آن الأوان أن تكون لدينا مؤسسات للتفكير، تختلف وتتفق حول المفاهيم المحركة للأحداث، وأن نقيم حوارات استراتيجية جادة كسائر الأمم. لا تخطط لمستقبل الأمم مجموعة مقالات في صحيفة أو حوارات رنانة على الشاشات. لنختلف حول الأفكار حتى تنضج. لو كانت لدينا مراجعات لأخطائنا تقوم عليها مؤسسات علمية لما دخلنا هذا الجحيم مرتين في جنوب لبنان وغزة.

ولعل أيوب القابع فينا يصيح الآن لا تجعلوني عبرة لمرة ثالثة.