عمر كوش

يمكن اعتبار إشكالية الدولة من بين أكثر الإشكاليات تعقيداً والتباساً في الخطاب السياسي العربي المعاصر، وللأسف لم يجهد المفكرون العرب في إيلاء الدولة ما تستحقه من البحث والاهتمام العلمي والتأصيل النظري، فبقيت الدولة مفهوماً مختلطاً بمفاهيم القومية والسلطة والحكومة والإدارة وما شابههما. والنتيجة هي ضمور الدولة في الوعي العربي المعاصر، الأمر الذي أدى إلى نتائج عكسية في نمط ولاء الناس لها، حتى بات عصياً استقرارها في الوعي الجماعي، بسبب ضعف تأصيلها النظري، وفقر خبرتها في التجربة التاريخية، فلم تتأرضن الدولة كوعاء مشترك في المخيال الجماعي للجماعات العربية، بل تماهت مع مفاهيم أخرى.
وعززت خيبات الأمل الناجمة عن فشل وتعثر المشاريع الوطنية في أعقاب الاستقلالات العربية الشعور بغربة الدولة وتغرّبها، لذلك فإن الحاجة تبدو ماسة إلى وعي جديد قادر على تمثل وهضم فكرة الدولة، وإلى تدشين تفكير نظري في مسائل الدولة والسلطة والمجتمع المدني في الفكر العربي، وتأمل الجدلية التي تحكم الاجتماع العربي المعاصر، والتي تنوس بين التوحد والانقسام، وتفعل فعلها في نسيجه الداخلي باحتدام، وتضعه مع ظاهراته المختلفة في حال من المراوحة المديدة بين التماسك النسبي والتشظي المتسع نطاقاً.
غير أن التفكير في هذه الجدلية يقود، بالضرورة، إلى التفكير في الدولة والمجتمع في البلدان العربية المعاصرة، نظراً لكونهما مسرح تلك الجدلية، والفاعل الأساس في إنتاج دينامياتها، والجهة التي ترتد عليها نتائجها إيجاباً في قليل من الحالات وسلباً في معظمها. وهذا يتطلب البحث في إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها الإشكالية الأم التي يندرج في نطاقها بحث الجدلية المدروسة، واتباع منهجية نقدية صارمة، لا يجري فيها تناول الأفكار والمفاهيم بوصفها مسلمات نهائية، بل بطرح الأسئلة عليها، ومحاولة هزها واستنطاقها وخلخلتها، بغية تقديم خلاصات مفيدة حول إشكاليات الدولة والمجتمع العربيين، وتحريض التفكير فيهما ضمن السياقين السياسي والاجتماعي المحددين لهما.
وقد شهدت العقود الأخيرة من القرن الماضي وبدايات هذا القرن تراجعاً في فكر وبنية الدولة الوطنية في أكثر من موضع في العالم، حتى بات التفكيك أو الاحتواء والتفتيت يترافق مع التصورات المعروضة إزاء قدرة السلطات والمؤسسات الحاكمة على تطوير كياناتها وتأسيس مشروعها التحديثي لضمان استمرارها وثباتها.
غير أن اللافت في الأمر هو أن الدولة التي دخلت مرحلة الأفول في الغرب، ما تزال مطلباً ضرورياً في الحالة العربية، بوصفها مرجعاً وخياراً للعمل المجتمعي المؤسسي، وتقع على عاتقها مهمة بناء الهوية المجتمعية القوية في بلداننا ذات التكوينات الهشة، التي تتقاذفها مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من طائفية وإثنية وقبلية، وتخطي تبعات البنى التكوينات المجتمعية الضيقة، إلى جانب حماية الفرد من بطش سلطة الدولة القمعية والشمولية وسطوتها.
ويبدو أن ما نشأ في الحال العربية هو كيانات تشبه الدولة في شكلها السياسي والقانوني، وتناقضها كنظام ومؤسسات وأهداف. وهي أقرب إلى دول هجينة، تمتلك جيشاً وأجهزة أمنية ومؤسسات، مهمتها الأولى، وربما الأساسية، هي قمع الشعوب وتكبيل قواها الحيّة وقتل روح المبادرة الحرّة. وتحولت إلى دولة منتجة لشبكات من الفساد والإفساد ولعصبيات طائفية ومذهبية، بدلاً من أن تسهم في تأسيس الجماعة الوطنية الموحدة أو الأمة.
وحاولت الدولة الهجينة كي تجعل المجتمع في خدمة نخبتها الحاكمة ومصالحها، أي أنها لم تعمل على خدمة المجتمع بمقدار أن المجتمع سخّر بالقوة في خدمة نخبة الدولة الحاكمة، ولم يعنِها كثيراً أن تستمد من المجتمع شرعيتها وقوتها، فأوجدت شرعيات laquo;ثوريةraquo; انقلابية، وشرعيات دينية ووراثية تجسد سندها في الواقع الجاثم على صدور عامة الشعب أو الرعية حسبما تفضل تسميتهم بعض الأنظمة laquo;الثوريةraquo;.
ونجحت هذه السلطات الحاكمة في إنتاج قدر كبير من السطوة والسيطرة على المجتمع، بمختلف جماعاته الوطنية، واستعانت بالخارج، كي تستقوي عليه وتزيد من قوتها وسلطتها، وباتت أشبه بقوة احتلال داخلي، وليس خارجيا، وبالتالي لا يمكن لهذه الدول الهجين أن تنتج دولة الأمة، أو دولة لمجموع مواطنيها. وكل ما ترمي إليه هو الاستمرار في السيطرة على مقاليد الحكم أطول مدّة ممكنة، وكأنها غزو داخلي، لا ينتج سوى الفساد والقهر والاستلاب، وبالتالي انسداد أي أفق سياسي جديد واجتماعي حديث ومتطور.