أوكامبو يريد اعتراض طائرة الرئيس السوداني إلى قمة الدوحة

أمر قبض دولي لا سابق له ضد البشير يلقي السودان في المجهول

كلام بريطاني على laquo;شعوبraquo; في السودان لا شعب واحد

أقرا .. الجزء الاول


جريدة الجرائد: في القسمالثاني من ملف البشير نقرأ تداعيات قرار إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، والعواقب التيربما تكون خطيرة على السودان بحسب مراقبين ، وهو quot; أي السودان quot; الدولة العربية الأكبر مساحة، التي تكافح منذ سنوات طويلة للحفاظ على وحدتها وتماسكها .

وبثت قناة quot;العربيةquot; متابعة خاصة لقرار إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، فحضر في استوديو القناة لفترة زادت على الساعة، علّق خلالها على قرار المحكمة، وشرح خلفياته، والخطوات المنوي إجراؤها مستقبلاً.
وقال أوكامبو إنه quot;لابد للبشير من أن يواجه قدره، سواء بعد شهرين أو سنتينquot;، مقارناً القضية بحالة الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي حوكم بتهم بارتكاب جرائم حرب ضد المسلمين في إقليم كوسوفو، والبوسنة وكرواتيا. وأيضاً حالة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور، الذي يواجه 17 تهمة بارتكاب جرائم حرب ضد الانسانية بسبب الدور في الحرب الأهلية الشرسة التي دارت في سيراليون حين اتهم بمساندة متمردين اشتهر عنهم تمثيلهم بالمدنيين.

وهذه أول مذكرة توقيف تصدرها المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس دولة يمارس مهامه منذ تأسيسها في 2002. وعمر البشير (65 عاماً) متهم بارتكاب جرائم في دارفور, الاقليم الواقع في غرب السودان والذي يشهد حرباً اهلية منذ 2003 اوقعت 300 الف قتيل و2.7 مليون نازح بحسب الامم المتحدة, في حين تؤكد الخرطوم ان النزاع لم يسفر عن اكثر من 10 آلاف قتيل.
وأكد المدّعي الدولي أن المذكرة ستلاحق الرئيس السوداني في أي بلد حلّ فيه، ملمحاً إلى إمكانية اعتقال البشير بمجرد سفره، إذ يمكن تعقبه وتوقيفه في الجو، quot;فلم يعد قادراً على التنقل بحرية وحضور المؤتمرات الدوليةquot;، خاصة في البلدان الموقعة على اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية. وتعليقاً على إعلان البشير نيته حضور قمة الدوحة المقبلة، أكد المدعي العام أن هذه المشاركة يمكن أن تعرض البشير للتعقب والاعتقال، quot;من قبل الدول التي التزمت بالمحكمة الدوليةquot;، مضيفاً أن المذكرة quot;ستلاحق البشير بمجرد خروجه من السودان، داعياً الحكومة السودانية لتوقيف الرئيس، مذكراً إياها بأنه quot;لا يمكنها رفض قرارات مجلس الأمنquot;.
وعن الفترة المتوقعة لتسلّمه، أكد أوكامبو أنه سيقدم إخطاراً بالمذكرة إلى مجلس الأمن الدولي في أول يوينو المقبل، quot;وبعدها سندفع لإنفاذهاquot;.

وبينما نفى إمكان إجراء محاكمة غيابية، شرح أوكامبو الدافع لإعلان المذكرة بشكل علني، معتبراً أن ذلك شكل خطوة ضرورية على طريق تنفيذ قرار التوقيف، من خلال إعلام الدول الأعضاء في مجلس الامن بالمذكرة، ليجري العمل على تنفيذها.

وأكد مدّعي المحكمة الدولية، في لقائه الخاص بـquot;العربيةquot;، أن قرار التوقيف لا يهدف لتغيير الحكم في السودان، كما لا يستهدف الرئيس البشير بشكل شخصي، منتقداً تركيز الإعلام على شخصية الرئيس السوداني، quot;بينما لم نسمع عن كيفية وقف الجرائم بحق الكثيرين، مضيفاً quot;الآن لن يعود بإمكان طائرات البشير أن تقصف المدنيين في دارفور. كما لن نقبل باغتصاب الفتيات في الإقليمquot;.

وأضاف: quot;هناك 5 ملايين شخص يموتون ببطء في معسكرات لجوء بدارفور. وقبل أسبوعين قصفت طائرات البشير القطاع، فقتلت الأطفال وهجرت الآلافquot;، وتساءل: quot;هل يمكن في هذه الحالة الحديث عن إمكان تهديد مذكرة التوقيف لعملية السلام في دارفور، وعن أي سلام نتحدث في هذه الحال؟quot;.

وتابع quot;البشير يتحكم بكل شيء في السودان. ولدينا أدلة دامغة تظهر تورّطه المباشر في جرائم دارفور، لذلك تم إصدار مذكرة التوقيف بحقه وحده؛ لأن مثل هذه الأدلة لا تتوافر ضد شخصيات أخرىquot;.

ولفت إلى أن المذكرة صدرت بموجب الفصل السابع من قانون مجلس الأمن الدولي، إلا أنه أكد، في المقابل، quot;أننا لن نطلب من أي شخص الذهاب إلى السودان لتنفيذ مذكرة التوقيف، لكن الحكومة السودانية ملزمة بموجب القانون الدولي بتنفيذ مذكرة التوقيف على أراضيهاquot;.

وعن فشل المحكمة سابقاً بتطبيق مذكرتي التوقيف بحق وزير الشؤون الانسانية السوداني احمد هارون وأحد قادة ميليشيات الجنجويد المؤيدة للحكومة علي كشيب في ابريل/نيسان 2007 بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور. ورفضت الخرطوم تسليمهما لأنها ترفض اي سلطة للمحكمة الجنائية عليها، قال أوكامبو quot;سنواصل جمع الأدلة لضمان تطبيق العدالة، سواء استغرق ذلك شهرين أو عامينquot;.

كما نفى إمكانية عقد صفقة حول المذكرة، مشيراً إلى أن أي اتفاق من هذا النوع كان يفترض عقده قبل إصدار طلب التوقيف، وليس بعده. وأكد أن القضية لا تحمل بُعداً قومياً ولا دينية، بل تقتصر على شخص واحد، هو الرئيس السوداني.

ورداً على اتهامات quot;الكيل بمكيالينquot;، التي وجهها البعض إلى المحكمة، خاصة أنها لم تتحرك في قضايا كبرى، كاجتياح العراق، والحرب على غزة، وحتى معتقل أبوغريب، كما انها لم تطالب باعتقال الرئيس الصيني للجرائم في التيبت، على سبيل المثال، وهو ما أثار شعوراً باقتصار تطبيق القانون على الضعيف، ردّ أوكامبو بنفي المعايير المزدوجة، مؤكداً أنها تحقيقات ذات طابع قانوني محض، وترتبط بالسلطات القضائية للبلدان.

وأضاف quot;السلطة الفلسطينية قدمت طلباً للتحقيق في جرائم الحرب على غزة، ونحن ننتظر الأدلة التي يمكن أن توفرها لها، مع الجامعة العربية، للمضي قدماً في التحقيقات وتقييم الوضع؛ لأن جرائم الحرب في غزة كانت فظيعةquot;.

المذكّرة تثير انقساماً دولياً... ووفد عربي إلى نيويورك لإرجاء تنفيذها... أوكامبو يريد اعتراض طائرة الرئيس السوداني إلى قمة الدوحة... laquo;لعنة دارفورraquo; تحوّل البشير مطلوباً... والسودان يتحدى laquo;المؤامرةraquo;


دخلت أزمة دارفور أمس منعطفاً خطيراً بعدما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير بسبعة اتهامات تتعلق بـ laquo;جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيةraquo; في الإقليم المضطرب. وأثارت المذكرة ردود فعل دولية متباينة، فيما قرر اجتماع استثنائي لوزراء الخارجية العرب إرسال وفد إلى مجلس الأمن لمحاولة إرجاء تنفيذها عاماً.

وفي وقت دعت المحكمة الخرطوم إلى التعاون وتسليم البشير، مهددة باللجوء إلى مجلس الأمن في حال رفضها، شددت الحكومة السودانية على رفضها القرار الذي اعتبرته جزءاً من laquo;مؤامرة استعمارية جديدةraquo;. وعلمت laquo;الحياةraquo; أن قادة الحكم أقروا خطة لمناهضة قرار توقيف البشير سياسياً عبر laquo;خطوات محسوبةraquo; تضع الوجود الغربي في البلاد laquo;في حال قلقraquo;، وتبقي الباب مفتوحاً أمام تحرك عربي - أفريقي لتعليق تنفيذ القرار عبر مجلس الأمن، خصوصاً أن الخرطوم كانت تلقت وعوداً روسية وصينية باستخدام حق النقض laquo;الفيتوraquo; إذا طرح القرار.

وأعلنت الناطقة باسم المحكمة لورانس بليرون في مؤتمر صحافي في لاهاي أمس أن الدائرة التمهيدية الأولى أصدرت مذكرة توقيف بحق البشير بتهمتي laquo;ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيةraquo;، وأسقطت تهمة الإبادة الجماعية لعدم كفاية الأدلة. وقالت إن البشير يُشتبه في أنه laquo;مسؤول جنائياً، باعتباره مرتكباً غير مباشر أو شريكاً غير مباشر، عن تعمد توجيه هجمات ضد جزء كبير من السكان المدنيين في دارفور، وعن القتل والإبادة والاغتصاب والتعذيب والنقل القسري لأعداد كبيرة من المدنيين ونهب ممتلكاتهمraquo;. وشددت على أن منصبه laquo;لا يعفيه من المسؤولية الجنائية ولا يمنحه حصانة من المقاضاة أمام المحكمةraquo;.

ورغم إعراب المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو عن أمله في اعتراض طائرة البشير في الأجواء الدولية خلال أسابيع، وتحديداً في طريقها إلى القمة العربية المقررة في الدوحة نهاية الشهر الجاري، فإن الخرطوم أكدت أن تحركات البشير الخارجية لن تتأثر وأنه سيشارك في القمة. وقال أوكامبو لـ laquo;الحياةraquo; إن عملية الاعتقال ممكنة فقط عبر اعتراض الطائرة وإجبارها على النزول في أحد مطارات الدول التي ستعتقله وتسلمه إلى المحكمة، laquo;لأن الأمم المتحدة لا تملك آليات قانونية للدخول إلى السودان واعتقالهraquo;.

وباشر الرئيس السوداني أمس مهماته في شكل طبيعي. وشهد احتفالاً عسكرياً في منطقة كرري في شمال أم درمان لمناسبة تخرج دفعة جديدة من الطيارين العسكريين، تزامناً مع المؤتمر الصحافي الذي عقدته المحكمة لإعلان قرارها. وعندما كان في طريق عودته إلى الخرطوم، خرج مئات في طرقات أم درمان معربين عن تأييدهم له، انضم إليهم آلاف في تظاهرة حاشدة في العاصمة.

واعتبرت حركات التمرد في دارفور قرار المحكمة laquo;نصراً تاريخياًraquo;. وخرج أنصارها في تظاهرات مؤيدة للقرار في بعض العواصم الغربية وأمام مقر المحكمة في لاهاي. ورأى رئيس laquo;حركة تحرير السودانraquo; عبدالواحد نور أن laquo;المذكرة ستغير الكثيرraquo;، فيما أعلنت laquo;حركة العدل والمساواةraquo; التي وقعت اتفاق laquo;حسن نواياraquo; بعد مفاوضات مع الحكومة السودانية في الدوحة، أن التفاوض مع البشير laquo;لم يعد ممكناraquo; بعد صدور المذكرة.

وأكد وزير العدل السوداني عبدالباسط سيدرات، أن الخرطوم لن تتعامل مع المحكمة لأن قراراتها laquo;سياسية وجاهزة مسبقاًraquo;، مشدداً على أن البشير سيواصل ممارسة مهماته وفقاً للدستور laquo;ولن تستطيع أي دولة المس بذلكraquo;. ووصف مستشار الرئيس مصطفى عثمان إسماعيل المحكمة بأنها laquo;واحدة من آليات الاستعمار الجديدraquo;. واستدعت الخرطوم ممثلي 10منظمات إنسانية أجنبية عاملة في دارفور وأبلغتهم laquo;انتهاء الترخيص الممنوح لهاraquo;.

وتباينت مواقف القوى السياسية السودانية إزاء القرار. ورأت laquo;الحركة الشعبية لتحرير السودانraquo; التي تحكم الجنوب أن laquo;المعالجة تكمن في تحقيق مصالحة وتضميد الجراحraquo;، مؤكدة أن زعيمها سلفاكير ميارديت laquo;يقف إلى جانب رئيسه البشير لإقرار السلام حتى لا يتعرض إلى هزةraquo;. وحذر مساعد الرئيس زعيم laquo;حركة تحرير السودانraquo; مني اركو مناوي من استغلال جهات لم يسمها الأجواء التي خلقها قرار المحكمة، لفرض أوضاع laquo;مأسوية وكارثيةraquo;.

ولم تكن ردود الفعل الدولية أحسن حالاً، إذ طبعها انقسام لافت. وفي وقت شدد البيت الأبيض على أن المسؤولين عن laquo;الفظائعraquo; في دارفور يجب أن يحاسبوا، رأت موسكو أن صدور المذكرة laquo;سابقة خطيرةraquo;. ودعا الاتحاد الأوروبي الخرطوم إلى laquo;التعاون الكاملraquo; مع المحكمة، وضبط النفس. وطالب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الحكومة السودانية بـ laquo;ضمان أمن المدنيين ومواصلة التعاون الكامل مع كل مؤسسات الأمم المتحدة وشركائهاraquo;، فيما اعتبر الاتحاد الافريقي أن المذكرة laquo;تهدد السلام في السودانraquo;.

وفي القاهرة، قرر وزراء الخارجية العرب بعد اجتماع استثنائي أمس، إرسال وفد إلى مجلس الأمن لإرجاء تنفيذ قرار المحكمة لمدة عام. وأعربوا عن انزعاجهم من القرار، مؤكدين تضامنهم مع السودان. وتحدثت مصادر عربية لـ laquo;الحياةraquo; عن ضرورة اتخاذ الحكومة السودانية laquo;إجراءات عملية لمحاكمة الضالعين في الجرائم في دارفور من أجل دفع الجهود العربية في هذا الصددraquo;. وقالت إن laquo;دولاً غربية مستعدة لتسوية الأمر بشروطraquo;.

وأشارت إلى أن laquo;الحديث يدور عن صفقة سياسية بين السودان من جهة وبريطانيا وفرنسا وأميركا من جهة أخرى، يتم بمقتضاها تسليم شخصيات سودانية إلى المحكمة الجنائية الدولية بينها (وزير الشؤون الإنسانية المطلوب لدى المحكمة) أحمد هارون ونقل وزراء من مناصبهم وإعادة النظر في موضوع القوات المختلطة في دارفورraquo;.

لكن مصادر مطلعة في مجلس الأمن أكدت لـ laquo;الحياةraquo; أن المجلس لن يتحرك في اليومين المقبلين كما تتمنى دول عربية وأفريقية لإرجاء تنفيذ قرار المحكمة، استناداً إلى المادة 16 من ميثاقها التي تسمح بإرجاء مذكرات التوقيف لمدة عام بموجب قرار يصدره المجلس تحت الفصل السابع. وقالت ان الوفد الليبي، وهو العضو العربي الوحيد في المجلس، لن يتحرك لتلبية طلب عربي قدمه وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في هذا الإطار قبل بضعة أيام.

وأشارت إلى أن laquo;الوفد الصيني ووفوداً أخرى تعمل على إقناع الليبيين بعدم التسرع أو دفع الأمور بسرعة في مجلس الأمن. وعليه، فلا يبدو أن هناك حركة حتمية في اتجاه تحرك آني في المجلسraquo;. وأكدت هذه المصادر المطلعة على مواقف الدول الأعضاء في المجلس أن سفراء الدول الخمس دائمة العضوية ليسوا جاهزين laquo;لطبخraquo; شيء حول المادة 16.

ورأى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي أن قرار المحكمة laquo;تطور جلل... لم يأخذ في اعتباره متطلبات تحقيق السلام في دارفورraquo;. وأشار إلى أن الجامعة laquo;مع إجراءات العدالة، لكننا نخشى على استقرار الأوضاع في دارفور ولا يجب أن يحدث تناقض بين الأمرينraquo;، داعيا مجلس الأمن إلى إرجاء القرار لمدة عام laquo;للملمة الأمورraquo;. وأعربت مصر عن laquo;إنزعاجها الشديدraquo; بسبب الانعكاسات السلبية المحتملة للمذكرة على الاستقرار في السودان، في حين رأت فيها موسكو laquo;سابقة خطيرةraquo;، بينما أيدتها فرنسا ودعت الخرطوم إلى التعاون الكامل معها.


أمر قبض دولي لا سابق له ضد البشير يلقي السودان في المجهول


محمد بلوط - لاهاي: لورانس بليرون، المتحدثة باسم محكمة الجزاء الدولية في لاهاي، أمام قاعة مملوءة بالصحافيين، أعلنت من دون أي انفعال، أو تحسب لاستثنائية أو عواقب ما، ان laquo;الدائرة التمهيدية الأولى، أمرت بالقبض على الرئيس السوداني عمر البشيرraquo;.
لكن laquo;العواقبraquo; قد تكون خطيرة على السودان، الدولة العربية الأكبر مساحة، التي تكافح منذ سنوات طويلة للحفاظ على وحدتها وتماسكها، في الشرق كما في الغرب، وفي الجنوب كما في الشمال، ويجيء القرار الاول من نوعه ضد رئيس دولة لا يزال في السلطة، من جانب هذه الهيئة القضائية الدولية الباحثة عن أدوار دولية، ليضرب السودان في الصميم، ويؤكد مخاوف كثيرين، في السودان وخارجه، بأن هذا الاقتحام الفظ للنسيج السوداني، باسم حماية سكان دارفور، قد لا يكون سوى محاولة تسلل برداء إنساني وأخلاقي، يهدد بتمزيق البلاد. وإذا كان هناك إجماع، في السودان وخارجه ايضاً، على رفض لا لبس فيه، للمعاناة الإنسانية الهائلة التي عاشها إقليم دارفور منذ سنوات، فإن كثيرين في الوقت ذاته، يطرحون تساؤلات وشكوكاً جدية حول مغزى مذكرة الملاحقة الدولية بحق الرئيس السوداني، فيما تجري محاولات حثيثة من جانب حكومة الخرطوم للبحث عن السلام المفقود في هذا الإقليم السوداني المضطرب. ومهما كان هذا القرار المعلن في لاهاي، laquo;نزيهاًraquo;، فإنه بالنسبة الى كثيرين يبقى انتقائياً بعدما شاهد العالم اجمع، وعلى الهواء مباشرة، الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في غزة مؤخراً، وقبلها في حرب تموز على لبنان، وعلى امتداد عشرات السنين في فلسطين عموماً، وما فعله الرئيس الاميركي السابق جورج بوش بالعراق، حيث خلف دولة مدمرة وملايين الضحايا بين قتلى وجرحى ونازحين، من دون أن يحرك أي قضاء دولي، لا في لاهاي ولا في غيرها، ساكناً. وفي هذه الأثناء، ثلاث قاضيات حسمن مصير الرئيس السوداني، ومنحن بليرون، المتحدثة باسم المحكمة، الورقتين المشفوعتين بسلسلة من الحجج القضائية وأرقام الفقرات التي يستند إليها القرار للقبض على البشير، وتفنيد حصانته التي لا تقوم في لاهاي، أو لتحديد اختصاص المحكمة في الدعوى، ومقبوليتها، وما ارتكب البشير من جنايات نسبت إليه.
كما منحت القاضيات التمهيديات الأرجنتيني والمدعي العام في محكمة الجزاء الدولية لويس مورينو أوكامبو، ما كان ينتظره منذ شهر تموز الماضي: مذكرة اعتقال بحق محمد عمر البشير بتهمتي ارتكاب جرائم حرب وخمس تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في إقليم دارفور.
وفي حين أودعت القاضية البرازيلية سيلفيا شتاينر، والغانيّة آكوا كوينيها، موافقة على طلب أوكامبو تثليث الجرائم المنسوبة للبشير، لم تجد آنيتا أوشاكا، القاضية اللاتفية، ما يكفي من أدلة في الملف المقدم إليها من أوكامبو لتجريم البشير بتهمة الإبادة، وهي أخطر اتهام يوجه لرئيس دولة منذ محاكمات نورمبرغ لقادة ألمانيا النازية، غداة الحرب العالمية الثانية.
وكان أوكامبو ينتظر أن تنهي رئيسة القلم سليفانا اربيا قراءة المطالعة الاتهامية التي وافقت عليها القاضيات الثلاث، كي يبدأ مرافعة الإدعاء العام المبكرة، والهجومية، ضد الرئيس السوداني، بنبرة كان يجريها على وتيرة واحدة لم تتغير طيلة الدقائق العشرين لمداخلته laquo;الانتصاريةraquo;.
وبصوت مهدد وواثق، لم يتوقف أوكامبو عن تهديد البشير بتحويل السودان إلى سجن كبير له، وبالاستعانة بمجلس الأمن الدولي لإخراجه من الخرطوم، وإجبار دول العالم والأمم المتحدة، بموجب
الفصل السابع، على التعاون مع محكمة الجزاء الدولية لتسليمه. ذلك أنه laquo;لا حصانة لرؤساء الدول، أمام محكمة الجزاء الدولية، وعندما يسافر البشير في أول فرصة خارج السودان، وينتقل في المجال الجوي الخارجي، سنلقي القبض عليهraquo;.
وقالت سيلفانا اربيا لـraquo;السفيرraquo; إن دولة قطر مجبرة على التعاون مع المحكمة لتسليم البشير، فيما لو حضر القمة العربية المقبلة في الدوحة في 30 آذار الحالي، لأنها عضو في الأمم المتحدة. وإذا لم تفعل، فإن المحكمة ستأخذ علماً بهذا الرفض للتعاون منها، وraquo;سنتقدم من مجلس الأمن لنطلب منه أن يقوم بما يلزم لكي تتعاون الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة معنا للقبض على البشيرraquo;.
ويأخذ أوكامبو على البشير، وضعه وتنفيذه منذ نيسان عام 2003، خطة انطلقت للرد على هجوم نفذه المتمردون في حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة ضد مطار الفاشر. وأعدت الخطة لهجمات انتقامية غير مشروعة ضد المدنيين في دارفور قامت بها قوات تخضع لإمرته، من ميليشيات الجنجاويد والجيش والشرطة والاستخبارات ولجنة المساعدة الإنسانية. وارتكبت أعمال قتل، وتهجير قسري، وإبادة، واغتصاب، وتعذيب، ونهـــب، وإبادة جمــاعية بحـــق قبائل الفور والمساليت والزغاوة.
وسيقوم أوكامبو بالطلب من السودان أولاً بتسليم رئيسه، لأن حكومة السودان ملزمة بذلك أمام القانون الدولي. وإذا لم ينصعْ السودان لذلك، laquo;فسننقل الطلب إلى مجلس الأمن، والدول (العربية) التي لا تمتثل للطلب، تمثل أقلية معزولة في الأمم المتحدةraquo;.
ولم يتوقف أوكامبو عند الآثار التي قد يخلفها قرار القاضيات الثلاث، على الأوضاع الداخلية في السودان واستقراره، لأن laquo;ما حصل في دارفور يتصل بحياة مليونين ونصف مليون بشري يعيشون في المخيمات، وهم في وضع مزرٍ، ويموتون ببطءraquo;.
ولن يتــغير بأي حال موقف مجلس الأمن من القضية في المستقبل laquo;لأن مجلس الأمن هو من طلب مني ملاحـقة البشير... لقد تغيرت الأوضــاع الآن، وآن أوان العدالةraquo;. ولــــكن متى يتــوقع أن يضع الأصفاد في معـــصمي البــشير؟raquo; في شهرين يجيب أوكامبو، عامـين على الأكثر، وهنالك مثل الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، والليــبيري تــشارلز تايلور، laquo;ومهـما طال الزمن، لا بد أن يمثل البـشير في المحـــكمة مثلهما، ليواجــه العدالةraquo;.

كلام بريطاني على laquo;شعوبraquo; في السودان لا شعب واحد ... laquo;توقيفraquo; عمر حسن البشير ... بين عدالة مطلوبة وأجنحة سودانية متكسرة!


يحيى غانم

عندما جلست قبل شهرين إلى المبعوث الدولي الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة لدى السودان أشرف قاضي في جناحه في أحد فنادق القاهرة، طرحت عليه سؤالاً عن علاقة التأثير المتبادل بين الأوضاع في جنوب السودان وفي غربه (دارفور).
إلا أن الرجل الذي يبدو أوروبي الملامح بسبب أصوله البلوشية فاجأني بإجابة لم أتوقعها، قائلاً: laquo;... من المهم إدراك أن إقليم دارفور هو جزء من شمال السودان، وانطلاقاً من كون اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل هي بين الشمال والجنوب، فإن الاتفاقية نفسها تنسحب على دارفور...!raquo;.
الإجابة، وإن أكدت وجود تأثير متبادل بين اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب من ناحية، وبين عملية السلام ولعبة الحرب في دارفور من ناحية أخرى، فإنها أكدت أيضاً - وفي شكل واضح - رؤية الأمم المتحدة لوضع دارفور كجزء لا يتجزأ من شمال السودان، وهو التأكيد الذي يُدخل الطمأنينة إلى حد كبير على وحدة أراضي السودان الشقيق، على الأقل في الغرب وإلى حد ما في الشرق، وإن كان الجنوب بات في حكم المستقل عملياً من الآن، ورسمياً اعتباراً من عام 2011.
وحيث إن علاقة التأثير بين أزمتي جنوب السودان وغربه، أهم من أن تترك هكذا، فقد استوضحنا من الرجل الاتهامات الموجهة لبعض الزعماء الجنوبيين باستخدام نظرائهم المحليين في دارفور للضغط على الحكومة المركزية في الخرطوم.
إجابة الرجل بدت كأنها نفي لهذه الاتهامات، مشيراً إلى إعلان زعماء الجنوب التزامهم الدفع بعملية السلام في دارفور، وتشجيع فصائل الإقليم على توحيد مواقفهم في المفاوضات مع حكومة الوحدة الوطنية. وأضاف: laquo;... نحن نرى أن موقف زعماء الجنوب في هذا الصدد إيجابي، على رغم أنه قد توجد وجهة نظر مخالفة، ولكنه يبقى من وجهة نظر الزعماء الجنوبيين في مصلحة عملية السلام في دارفور...raquo;.
وأوضح المبعوث الدولي: laquo;... قد يختلف هؤلاء الزعماء حول سبل تحقيق الأهداف، وهو ما يدفعهم في بعض الأحيان إلى تبادل الاتهامات، ولكنهم في النهاية يتفقون على هذه الأهداف، وعلى حسن النيات، بدليل إدانة نائب الرئيس سيلفا كير الهجوم الذي تعرضت له أم درمان في أيار (مايو) 2008 على أيدي متمردين من الغرب...raquo;.
بعد شهرين من هذه الجلسة، جمعتني جلسة أخرى مع وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند الذي أجاب عن أسئلتي بكلام يستند إلى منطق قوي يدعم إصرار بلاده - والغرب بصفة عامة - على إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمراً بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير بناء على اتهامات له بجرائم حرب.
إلا أن إجابة الرجل عن سؤال عما إذا كان الهدف النهائي من أمر التوقيف - المتوقع صدوره اليوم الأربعاء - طالما أن السودان لن يسلم رئيسه للمحكمة، هو الضغط على السودان لتفجيره إلى دويلات متصارعة، بكل ما يعني ذلك من مخاطر إقليمية، نقول إن إجابة الرجل على السؤال تضمنت ما يستوجب وقفة وتأملاً.
قال ميليباند: laquo;... نحن نسعى إلى دعم استقرار السودان، إضافة إلى حماية حقوق laquo;شعوبraquo; السودان. ونحن أيَّدنا الاتفاق بين الشمال والجنوب في عام 2004 كما وقعنا كشهود، ونؤيد حق السودانيين في تقرير مستقبلهم. ومرة أخرى، فإن تصميمنا على دعم عمل المحكمة الجنائية، يأتي من منطلق سعينا لدعم استقرار السودان وتحقيق العدالة. الأمر ليس تسييساً، ولا علاقة له باستعمار عفا عليه الزمن، كما أننا لا نسعى إلى تحقيق نتائج معينة، وإنما الأمر متعلق باتهامات خطيرة وجهتها محكمة مهمة، لكنها لم تؤخذ على محمل الجدية...raquo;.
وبعيداً من كل ما جاء في هذه الإجابة الطويلة من مبادئ لا يستطيع منصف أن يعترض عليها، إلا أنه كان علينا التوقف أمام أربع كلمات في إجابته محاولين النفاذ إلى ما وراءها من معان، يمكن أن تتجسد في شكل أهداف، قد نراها تتحقق في المدى المتوسط!
والكلمات هي: laquo;... حماية حقوق شعوب السودان...raquo;. فالرجل لم يقل: laquo;الشعبraquo;، وإنما قال laquo;الشعوبraquo;!
وكما أوضحنا، فإن شهرين كانا الفارق الزمني بين الجلسة مع المبعوث الدولي للسودان أشرف قاضي، وبين الجلسة مع وزير الخارجية البريطاني القدير، إلا أن الفارق بين موقفي الرجلين إزاء وحدة أراضي السودان، في ما يتعلق بدارفور، بدا بيناً في شكل لافت للنظر.
ففي حين أكد أشرف قاضي بشكل لا لبس فيه أن الأمم المتحدة - على الأقل - تنظر الى دارفور كونه جزءاً لا يتجزأ من شمال السودان، وأنه يعد جزءاً من الطرف الشمالي المتعاقد مع الجنوب في اتفاقية نيفاشا للسلام مع الجنوب، فإن كلمة laquo;شعوب السودانraquo; التي نطق بها ديفيد ميليباند، توحي بنظرة أخرى مختلفة تفيد بأن الباب مفتوح أمام الغرب لكي يقرر مصير دارفور؛ ففي النهاية نحن نتحدث عن شعوب وليس عن شعب واحد.
ومع تصاعد مراوغة وتعنت فصائل الإقليم من المعارضة المسلحة في التفاوض مع الخرطوم بسبب إصرار المحكمة الجنائية الدولية على إصدار أمر التوقيف للرئيس السوداني، فإن كلمات المبعوث الدولي للسودان حول كون دارفور جزءاً من شمال السودان، وإن اتفقت مع الماضي والحاضر وآمال المخلصين من السودانيين وأمنيات عالم عربي، إلا إنها على ما يبدو لن تنطبق على المستقبل!
الغريب أن أحد أهم مبررات انقلاب الضابط عمر البشير - الرئيس الحالي - على نظام حكم الصادق المهدي في 30 حزيران (يونيو) 1989، في ما عُرف بنظام الإنقاذ الإسلامي، تمثل في وقف الحرب في إقليم دارفور ضد قبائل الفور الأفريقية، إضافة إلى التصدي لتقدم الجيش الشعبي الجنوبي لتحرير السودان باتجاه الشمال. ففي 20 آذار (مارس) 1990 عقد مؤتمر للصلح بين قبائل الفور الأفريقية والقبائل العربية، توقف بمقتضاه القتال، وذلك بفضل سطوة الزعيم الروحي لنظام الإنقاذ - في ذلك الوقت - الدكتور حسن الترابي على الحركات الإسلامية المسيطرة حينئذ على الحياة السياسية في الإقليم.
إلا إنه في مطلع عام 1991 بدأ تحول نوعيّ في توجهات أجنحة في فصائل المعارضة الدارفورية من قبائل الفور الأفريقية، تمثل أول ما تمثل في انشقاق المهندس داود يحيى بولاد - المنتمي لقبائل الفور، عن الإسلاميين، وتطلعه لنموذج الزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق الذي اعتمد السلاح وسيلة لتسوية خلافاته مع الشمال بهدف نهائي، هو الانفصال. لكن المهندس بولاد لم يكتف بالتطلع والتشبه بالزعيم الجنوبي فقط، وإنما قرر الدخول في تحالف عسكري تنظيمي معه، وصل إلى انضمامه مع بعض عناصر الفور إلى قوة تابعة للجيش الشعبي لتحرير السودان عمدت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1991 الى التسلل لاقليم دارفور بهدف التمركز في مرتفعات laquo;جبل مرهraquo;.
وبعد أن أوشكت تلك القوة ان تسيطر على laquo;جبل مرةraquo; الاستراتيجي، سارعت حكومة البشير بتسليح عاجل ومكثف لعناصر من القبائل العربية ومقاتلي الجنجويد الذين حصلوا على نصيب الأسد، مكنها من التصدي للغزو ودحره، كما مكن النظام في الخرطوم من إعدام المهندس بولاد.
وطبقاً لقواعد laquo;اللعبة القبيلةraquo; فإنه من السهل توزيع السلاح، إلا إنه من الصعب جداً نزعه. وفي ظل هذه الظروف، فإن هذه العناصر من القبائل العربية احتفظت بالأسلحة التي فاقت مقتضى الحال في الإقليم بعد القضاء على تم رد المهندس بولاد. ومن هنا بدأت المشكلة في دارفور، فهذا السلاح بات جاهزاً للانطلاق لدى أي أزمة، وإن كانت من عينة تلك الأزمات التي يشهدها الإقليم بين رعاة تجور قطعان ماشيتهم على زراعات المزارعين.
وحيث إن الدولة المركزية تعاني من غياب سلطتها عن أطرافها، ولأن النظام الحاكم بات يشك في نيات العديد من القيادات السياسية الممثلة لقبائل الفور الأفريقية، فإن الخرطوم لم تبذل الجهد المطلوب والكافي لكبح جماح وجنوح بعض الفصائل من القبائل العربية الدارفورية، وهو ما دفع أطرافاً دولية وإقليمية - وعلى رأسها تشاد - إلى زيادة تسليح قبائل الفور، وتشجيعها على تشكيل ميليشيات، كانت النواة لما يعرف حالياً باسم جيش تحرير السودان، وهو ما مَثّل بداية حرب في الإقليم.


إفلات فرصة وحدة الدين

ومع تحول النفط في الإقليم من احتياطات محتملة في باطن الأرض إلى احتياطات مؤكدة، وذلك قبل أن تبدأ أعمدة الذهب الأسود تتفجر عالياً في سماء الإقليم على أيدي الصينيين الذين حصلت بلادهم على غالبية امتيازات التنقيب والاستخراج في غياب الغرب الذي قاطع السودان لحساب حق تقرير المصير للجنوب. مع هذه التطورات بدأت حركات المعارضة في الإقليم تنتقل من مربع المعارضة إلى مربع التمرد، طلباً للإبقاء على السلطة والثروة في الإقليم، في حين بدأ الغرب في تذكية التمرد طلباً لنصيب في الكعكة! فعلى رغم أن أحد أهم الجينات الوراثية الإيجابية التي حملها جسد إقليم دارفور نقلاً عن انتمائه العربي تمثلت في الإسلام، الذي تدين به الغالبية الساحقة من السكان، عرباً كانوا أم أفارقة، إلا أن السلطة المركزية في الخرطوم فشلت في استغلال هذا الجين الوراثي الإيجابي بما يوحدها مع الإقليم.
وعودة إلى التاريخ الحديث للسودان يمكن أن تعيننا في معرفة تلك الحساسيات التي فشلت وحدة الدين في القضاء عليها. فأحد أسباب التوتر في علاقة بعض نخب وسط السودان مع سكان دارفور، تمثل في كون الإقليم كان السند الرئيس لكل من الثورة والدولة المهدية التي حكمت في أواخر القرن التاسع عشر. وقد وصلت مساندة الإقليم للدولة المهدية إلى ذروتها عندما ورث عبدالله التعايشي المنتمي إلى دارفور الخلافة المهدية، وهو ما أدى بالتالي إلى دخول العديد من أبناء دارفور وكردفان إلى سدة السلطة على حساب أبناء الوسط.
ومن هنا، بدأت تاريخياً ظهور مصطلحات على شاكلة laquo;أولاد البحرraquo; - سودانيو الوسط - و laquo;أولاد الغربraquo; وهم أبناء دارفور وكردفان.
وعلى رغم ذلك، إلا أن الظروف أتاحت فرصة ثمينة لنظام الرئيس عمر البشير، عندما دعم الإسلاميون من أبناء دارفور - وكانوا هم المسيطرون على الإقليم في ذلك الوقت - انقلاب 30 حزيران (يونيو) 1989 الذي اتخذ الإسلام غطاء لشرعيته. إلا إنه، ومرة أخرى، تفلت السلطة المركزية في الخرطوم هذه الفرصة، بتغييبها أي مشروع تنموي لدارفور، إضافة إلى أسلوب القبضة الحديد الذي استخدمته الحكومة في التعامل مع الإقليم ومشكلاته، ما أدى إلى انفضاض أغلب أبناء الإقليم عن نظام الحكم في الخرطوم، ومن ثم بدأت في الظهور تيارات جديدة أكثر ثورية.
ولا شك في أن هذا التحول في منهج التنظيمات الدارفورية، جاء في جانب كبير منه، بإيحاء من القيادات الجنوبية التي عملت في تلك الفترة على فتح جبهة عسكرية في الغرب تستطيع أن تواجه بها الضغط العسكري الحكومي عليها في الجنوب.
وهكذا، ظهرت تنظيمات مثل laquo;حركة تحرير السودانraquo; بقيادة أمينها العام منى أركوي ميناوي، وحركة laquo;العدالة والمساواةraquo; بقيادة خليل إبراهيم، تعاملت معها الخرطوم في البداية باستخفاف - كعادة الأنظمة العربية - وأصرت على أنها مجرد عصابات قطاع طرق، وذلك قبل أن تبدأ في توزيع اتهامات معروفة من أن حركة تحرير السودان مدعومة من الحركة الشعبية لتحرير السودان وإريتريا، وأن حركة العدالة والمساواة إنما هي من بنات أفكار حسن الترابي، وهو ما لم يسهم في الحل وإنما في مزيد من التهور.
لا شك في أن كُلاً من ليبيا وقطر هما الدولتان العربيتان الأكثر انخراطاً في مشكلة دارفور بالسعي إلى حل سلمي تفاوضي، إذا استثنينا مصر باعتبارها الدولة الأقرب سياسياً وتاريخياً وثقافياً إلى شقيقتها السودان.
وعلى رغم أن الجهد الليبي المقدر في محاولة التوصل إلى سلام مراوغ في هذا الإقليم كان يتم دائماً بالتنسيق مع مصر، إلا أن الراصد يحار في تقويم مدى فاعلية هذا الجهد. وإذا كان من الواجب أن يكون جهداً مساعداً لدور مصري أقدر - بحكم التاريخ - في التعامل مع هذه القضية الشديدة الحساسية.
وإذا كان الأمر يجوز على ليبيا التي تشارك بحدود برية وتداخل قبلي مع السودان وتشاد، فإن الأمر ينسحب بالضرورة على قطر التي نرى أنه كان أجدر بها أن تكرس جهدها المحمود كجهد مساعد لجهد رئيسي مصري.
ولعل هذه المحاولات العربية المتفرقة - في معظمها - تتطلب توحداً بهدف عدم إهدار الجهد، والأهم عدم إهدار الوقت، لإنهاء هذا الصراع ودفع قوى الإقليم التي تسعى - بتوجيه خارجي - للانفصال إلى تنكب هذا الطريق الانفصالي الهدّام. الشاهد، أن الراصد يمكنه استشراف تصاعد خطير في الصراع في الإقليم بعد صدور القرار المتوقع للمحكمة الدولية الجنائية بتوقيف الرئيس السوداني، فمن المنطقي أن يدفع القرار قيادات المعارضة المسلحة في الإقليم إلى مزيد من التصلب إزاء الخرطوم.
هذا الاستشراف يدفعنا إلى مناشدة الدول العربية وضع قضية دارفور على رأس جدول أعمال القمة العربية القادمة المقرر عقدها في الدوحة هذا الشهر، جنباًإلى جنب مع القضية الفلسطينية. فحياة آلاف من أبرياء دارفور، لا تقل أهمية عن حياة الفلسطينيين، كما أن مستقبل الدولة الفلسطينية التي نسعى لها، لا يزيد أهمية عن مستقبل دولة السودان الذي نصلي من أجل بقائه كياناً موحداً من دون أن ينكسر جناحه الغربي.

المصادر : جريدة الحياة ، الشرق الاوسط ، العربية نت ، جرائد سودانية ، النهار اللبنانية