توجان فيصل

لكثرة ما جرى من لغط حول مطالبة محكمة الجنايات الدولية بتسليم الرئيس السوداني عمر البشير ليحاكم على جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في دارفور، فإنه يستحيل الإحاطة بالموضوع في مقال واحد.. ولكن لكثرة ما غاب العقل والمنطق عن معظم ما كتب وقيل، فإننا سنركز في مقالتنا هذه على بعض اوجه غياب العقل والمنطق، او تغييبه بالأحرى كون الحملة المؤيدة للرئيس البشير ليست عفوية ولا مجانية كما يشاع او يظن.

وإذا كان رجل الشارع المسحوق جراء غياب كل اشكال العدالة عنه، بات يقبل على نفسه السير في مظاهرة منسقة طمعا في رضى مسؤول وبعض فتات موائده الغنية وحدها في بلد المجاعات.. فإن انتقال العدوى للنخب لترفع الشعارات ذاتها المدافعة عن العصا التي لا يزال البشير يلوح بها - بحكم العادة المتأصلة وبما ينفي أية مراهنة على تغيير ولو براغماتي لنهجه - حتى في خطاباته المطالبة بتأييد الشعب له في أزمته الحالية.. انتقال العدوى للنخب هكذا أمر مؤسف ويعطي المبرر للعالم لينظر إلينا على اننا دون سوية البشر، واننا بالتالي لا نستحق حقوق الإنسان ذاتها التي تتاح للإنسان الغربي.

هذا الغرب الذي تميز علينا بحيث اقتنع، في شقه المتغول علينا، اننا دونه في سلم البشرية، أو الذي بتنا نعيش على رحمة ونجدة شقه الآخر المتمتع بالحس الإنساني، وهو بمجموعه الغرب الذي أورث نخبنا قبل عامتنا تلك العقدة التي أفقدتهم ليس فقط منطقهم السليم بل وايضا تأهلهم لقيادة أوطانهم بدلا عن الطغمة الحاكمة التي تعتاش على زعم ان لا بدائل لها كلما بدت سوءاتها اوضح أمام شعوبها وامام العالم.. اهم ما يميز هذا الغرب عنا هو انه تجاوز حكاما كحكامنا وكهنوتا متحالفا أو متنافسا مع هؤلاء الحكام ككهنوتنا (أنظروا لثنائية البشير والترابي كعينة) ليخرج من عصور ظلمته إلى ما سمي بعصر النهضة، وذلك بالعودة للعقل .

وإعادة الاعتبار للعقل هو ما أعاد الاعتبار للإنسان، أي إنسان وكل إنسان، باعتباره كائنا عاقلا. ومن هنا كان أهم إنجازين للأوروبيين منذ عصر النهضة هما: الإنجاز العلمي الذي فاقونا فيه بمراحل لأن عقولهم لم تعد تقمع على يد زاعمي حق الحكم الإلهي، والإنجاز الديمقراطي الذي يتيح لهم، بل ويحتم عليهم، أن يبدلوا حتى أحسن زعمائهم إن هبطوا بنسبة بسيطة في سلم تقييم شعوبهم لهم، دون السقوط في زعم ان لا بديل لهؤلاء الزعماء إن رحلوا !! وكلهم راحل في النهاية لأن البشر الأفراد يفنون ولكن الشعوب والأمم والجنس البشري بعامته هو الباقي.

ونذكر نخبنا أنها دأبت على تلقيننا ان العرب كان لهم فضل في دخول أوروبا لعصر النهضة وذلك بنقلهم لهذا التراث العلمي العقلاني الذي استمد من تراجم عن الإغريق بشكل رئيسي وأضاف له العرب في عصور ازدهارهم .

فإذا كان هذا ما نباهي به ونحل به بعض عقدنا، فلماذا استغنينا عن اهم مكون في هذا الذي نقل عنا او عن طريقنا، ولماذا لم نؤسس، بل ولا نؤسس عليه الآن رغم تأزم حاجتنا لهذا، سياسيا وعلميا؟

ولنأت لاستنهاض العقل في هذه الأمة، بدءا برفض الأحكام العامة والقسمة العسفية لأبيض وأسود ومعسكر خير ومعسكر شر ومعنا وضدنا، وهو ما أدنا به وادان به العالم، والأمريكان انفسهم في انتخاباتهم الأخيرة، الرئيس بوش وإدارته. فلا مجال للقول إن الرئيس البشير كالرئيس صدام او كعبد الناصر .

فالذي وفر لشعبه تأمينا صحيا اعترف الغرب المعادي نفسه انه كان بسوية التأمين في البلاد الإسكندنافية لا اقل، ومثله النقلة في مجال العلم الذي سهل ترويج امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، والذي وحّد العراق ففرط عقده بإسقاطه، بل والذي جرى تحاشي إحالته لمحكمة الجنايات الدولية لضمان تصفيته بالإعدام في محكمة صورية غير شرعية خوفا من بقائه حيا حتى وراء القضبان، ومع ذلك بقي حيا في وقفته الشجاعة أمام حبل المشنقة .. هو ليس البشيرعلى محاسن الأخير أو سيئاته .

والذي أمّم القناة وأعاد للفلاح المصري كرامته واجترح معجزة السد العالي لإطعام جياع شعبه وخاض حربا مع جيوش ثلاث دول لتحقيق الإنجازين التاريخيين، ونقل مصر من عصر الإقطاع لعصر الصناعة ومات عن أقل من ثلاثة آلاف جنيه هي كل رصيده المالي.. هو حتما ليس البشير الذي يحكم منذ عقدين أرضا توصف بأنها quot; سلة العالم الغذائية quot;، ومع ذلك يموت أهلها من المجاعة.. إضافة لميتات أخرى أودت بالسودان لنفق أودى بدوره للمحكمة .

مقولة استهداف الغرب لنا وقسمتنا على اساسها هي أول ما يجب أن يعقلن . فلو أطلقت النار من البندقية ذاتها على حمار أحدهم وعلى والده، فإن هذا لا يجعل والده حمارا .. ولكن إصراره على أن البندقية أزالت أي فرق بينهما هو الأقرب لأن يجعله هو (....) وابن ( .... ).

أما مقولة ان المحكمة الجنائية الدولية غير مختصة بمحاكمة رئيس دولة quot; وهو في سدة الحكمquot;، فهو دليل على جهل مدقع . فهي مقولة تتناسى أحد أهم أسباب إنشاء المحكمة، وهو رفع الحصانة عن رؤساء الدول إن هم ارتكبوا ايا من الجرائم التي تختص بها المحكمة .

ثم هل يصبح حاكم عربي quot; خارج سدة الحكم quot; إلا بثورة أو انقلاب يطيح به فيحاكم محليا ما يغني عن المحكمة الدولية، او بموته؟ ونص نظام المحكمة الذي يجهله او يغفله أساتذة قانون عرب، يكفي الباحث المهتم، ولكن لمنفعة القارىء غيرالمختص نذكر بقصة سعي أمريكا بوش المكرر والناجح، مقابل مبالغ من المال، لتستخلص من حكومات بلا سيادة ومجالس نواب مزورة، اتفاقيات ثنائية بعدم تسليم العسكريين والسياسيين الأمريكان المتهمين بجرائم ضد الإنسانية لمحكمة الجنايات الدولية .

فمم تخاف امريكا غير الموقعة على نظام المحكمة، بل والتي قاومت صدوره كما قاومته إسرائيل، إلا علم كليهما يقينا أن مجرمي الحروب من قادتهما سيساقون إلى تلك المحكمة في النهاية؟

أما إصرار بعض العرب على أن المحاكمة لن تطال قادةإسرائيليين وأمريكان، كون أي منهم لم يقدم للمحكمة للآن رغم الجرائم التي ارتكبت في غزة ولبنان والعراق وقبلها.. فالرد كان يجب ان يأتي من القانونيين ،وهو ان أوراق قضية دارفور قدمت للمحكمة كاملة العام الماضي ورفعها المدعي العام للمحكمة في أغسطس 2008، وقد قبل قضاة المحكمة القضية والتهم المسندة للبشير باستثناء واحدة هي quot; الإبادة الجماعية quot;، وبناء عليه اصدرت مذكرة الاعتقال الآن. بقي أن يسير المحامون المترافعون عن غزة (وكلهم غربيون او عرب مغتربون بينما العرب العاربة منشغلون بالخطابات النارية غير ذات الصلة بالإجراءات المحكمية) في القضية وتقديم أوراقها وبيناتها للمحكمة .. وإن رفضتها المحكمة نتحدث حينها عن ازدواجية معايير، ولكننا لا نجهض محكمة كلفت جمعا من شرفاء العالم جهد سنوات، بل نطالب حينها بإصلاح المحكمة وتغيير قضاتها او مدعيها العامين أو حتى بمحاكمتهم.. تماما كما نطالب بإصلاح قضائنا العربي الذي اشتهر بتقافزه بين كل المعايير او حتى بالاستغناء عن أي معيار قانون أو عدالة.. ومع ذلك لا نطلب إلغاء قضاءنا بل إصلاحه، مع انه أمر أصعب بآلاف المرات من إصلاح قضاء دولي.

أما العالم الإسلامي الذي يستنفر للدفاع عن تخلفه، فنذكره بأمرين هما في قمة الحكم الإسلامي إن طبق . الأول، ان حقوق الناس، بل وحق فرد واحد، أمر لم يعط الخالق لنفسه حق غفرانه، مع أن مغفرته وسعت كل شيء .

هذا لمن اعطوا انفسهم، دون الخالق جل جلاله ، الحق في أن يغفروا للبشير حقوق اناس قتلوا ونساء اغتصبن واطفال ماتوا من المجاعة .. أما زعم أن هذا التفريط بحق الملايين من جهة، والتأليه لحفنة حكام ومتنفذين من جهة اخرى، بأنه دفاع عن سيادة الأمة، فيرد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف (ويقصد ذو المكانة وليس العفيف) تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد .

رئيس حكومة أردني سابق واجهته الصحافة بممارسات لا تقبل الدحض، فأجاب: quot; نحن مع كرامة المواطن، ولكن ليس عندما تتعارض مع هيبة الدولة quot; !! وقوله هذا تصدر الصحف الرسمية باعتباره الرد المفحم والقول الفصل، ولم ينقل عنه سرا!!

الأمة بلا كرامة ،ولكن هيبة دولها محفوظة.. بقي ان نقنع العالم بتلك الهيبة التي تعقد ألسنة شعوب او تنطقها ما يناقض منطق العقل البشري السليم .. وإن لم يقتنع هذا العالم، فالعصا - بحكم العادة - تؤشر إلى حيث ينتهي كل مشكك او معارض، وإلى حيث انتهت حقوق ملايين البشر، بل وانتهت قوانين وقضاة ومحاكم : إلى ما تحت الجزمة!! لهذا تحديدا استوجب قيام محكمة جنايات دولية