عبد الغفار حسين

ldquo;نريد دبي أن تكون مركزاً عالمياً للامتياز والإبداع والريادة وإننا قادرون على تحقيق الامتياز والإبداع والريادة ودعم قيادتنا بإذن الله . نريد دبي أن تكون المدينة العالمية الأولى للتجارة والسياحة والخدمات في القرن الواحد والعشرين لأننا قادرون على توفير الهياكل المتطورة والبيئة المثالية التي تمكنها من القيام بهذا الدورrdquo; .

الشيخ محمد بن راشد في كتابه رؤيتي

ldquo;هذه البلدة ستكون عاصمة التجارة وستحل محل لنجةrdquo;

بيتر زويمر

القس الأمريكي الذي زار دبي في عام 1901

خلال شهر مارس/ آذار والذي قبله، أصبحت دبي تموج بالأحداث الثقافية والفنية والاقتصادية، مهرجان وراء آخر، ومعرض فني أو ثقافي وراء معرض، ناهيك عن عدد من المعارض التجارية التي ما انفكت تعقب بعضها بعضاً، هكذا دبي كعادتها لا يهدأ لها نشاط، ولا تتوانى عن احتضان أي حدث مفيد للناس اقتصادياً، أو اجتماعياً، أو ثقافياً، والذي يزيد هذا النشاط حيوية هو الاهتمام المنقطع النظير الذي يوليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد شخصياً بكل ما يجري من حدث، متابعاً وزائراً ومتنقلاً من مكان إلى مكان دون كلل وأحياناً في أكثر من مرة في يوم واحد، مما يثير الإعجاب لدى كل المشتركين في هذه المهرجانات والمعارض، ويولد الشعور بالثقة في ان دبي ستظل مستمرة في تبوؤ مكانتها العالمية، كمركز للمال والجودة، وتقديم الخدمات النافعة، وأن أمورها على خير ما يرام في مجابهة الصعاب، وأن المستقبل ليس بأقل ازدهاراً مما مضى .

دبي، الإمارات، شأنها شأن كل بلد ذي نشاط في مجالات الحياة العامة للإنسان الحديث المتطور، تتأثر بالآخر وتؤثر فيه، فنحن جزء في جسم كبير، جسم هذا العالم الواسع، نشترك معه في السراء والضراء، والسلب والإيجاب، ومن يقول إنه في مأمن مما يجري في العالم ولا يخصه ما يجري من قريب أو بعيد، فإنه يقول قولاً يجانبه الصواب، ومعنى قوله إنه ليس مسايراً لركب التطور باقياً على قوقعته في محيطه كما تعود عليه، ونأخذ بالأزمة العالمية في مجال الاقتصاد مثلاً، لنرى أنها قد عمت العالم بأسره، وبطبيعة الحال يأتي تأثيرها في المناطق الأكثر نمواً أكبر من تلك التي أقل نمواً، أو كانت متباطئة النمو أصلاً، أو متقوقعة في مكانها كما قلنا بغير حراك إلى الامام .

وهنا يتبين أن الإمارات، ودبي بصفة خاصة كعاصمة للتجارة المزدهرة والدائمة النشاط في المجال العمراني، يكون من الطبيعي أن تواجه أكثر من غيرها في هذا الجزء من العالم الذي تقع فيه، تحديات ومطبات في طريق مسيرها، بل في واقع الأمر يكون من غير الطبيعي أن لا تمسها التحديات بالشكل الذي يلامس أي بلد مشابه لها، كثير النشاط والسير نحو الاتساع والتطور .

في تاريخ دبي، ومنذ الأزمة الخانقة الكبرى التي اجتاحت العالم بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو قبيل الحرب الثانية، وطوال الثلاثينات من القرن الماضي، رأت دبي وشاهدت الشيء الكثير من التحديات والأزمات والحوادث المزعجة، التي تشل عجلة أي تقدم للأمام في أي بلد يعتمد في موارده على التجارة والخدمات التجارية، وكانت تلك الأزمات يومئذ مزعجة وكارثية بالنسبة لمنطقة الخليج، واستمرت طوال مدة الحرب العالمية الثانية، وإلى أن وضعت الحرب أوزارها في النصف الأول من الأربعينات .

وباستعراض التاريخ، نجد أن كساد اللؤلؤ الطبيعي الذي كان يستخرج من مياه الخليج، والذي كان يعتبر أجود أنواع اللآلئ الطبيعية في العالم، والاستعاضة عنه باللؤلؤ الصناعي أو المزروع من قبل اليابان، أصبحت منطقة الخليج كمن جاء ومسك بخناقها يريد كبت أنفاسها، ومع وجود هذه المصيبة، كانت الأزمة أقل وطأة على دبي من غيرها، لأن دبي في ذلك الوقت، في الثلث الأول من القرن الماضي قد بدأت تستكمل بنيتها التجارية، واستقر فيها التجار ذوو الصلة المباشرة بالتجارة في المناطق القريبة والمحيطة لبلاد فارس والهند وشرق إفريقيا وعمان وسواحل البحرين الكبرى وشبه جزيرة قطر، وكان ميناء دبي قد أخذ مكانته ليكون محطة تخزين لكل البضائع التي ترد من أي مكان، ويعاد شحن هذه البضائع مرة أخرى إلى المناطق المذكورة آنفاً، بطريق عادي أو غير عادي كالتهريب، والتهريب كان يعني اجتناب المصدرين والمتسوقين من أسواق دبي، ضريبة الجمارك العالية التي كانت تستوفيها السلطات المختصة في تلك الأقطار التي تشحن إليها البضائع، ولم يكن تجار دبي في الحقيقة هم المشتركون المباشرون في التهريب أو يقومون به، ولكن كانت موانئ دبي المنتشرة على ضفاف خورها أو خليجها المائي المتميز وحسبما عليه حتى الآن، ميناء حراً يأتيه ويذهب منه آلاف مراكب الشحن والتفريغ من كل حدب وصوب، لا يسأل أحد هؤلاء الرايحين والغادين من أين جاءوا وإلى أين يذهبون .

ولا بد لنا من التذكير أن هذه السياسة المتعلقة بإتاحة الحرية للتجارة أن تأتى بأكلها الطيب والمزدهر، والتي يتبناها شيوخ دبي وحكامها من آل حشر بن مكتوم بن بطي بن سهيل، بدءاً من واضع اللبنات الأولى لهذه التجارة الحرة، الشيخ مكتوم بن حشر، وابنه سعيد بن مكتوم، وبعد ذلك أحفاده الشيخ راشد بن سعيد، والشيخ مكتوم بن راشد وحتى الحاكم الحالي الشيخ محمد بن راشد بن سعيد بن مكتوم، هذه السياسة هي التي ميزت دبي عن غيرها، وجعلت قلوب التجارة والتجار وما يتعلق بهؤلاء تهفو إلى دبي ولا ترضى عنها بديلاً، لأن التجارة هي الحضارة، وهي العمران، كما يقول ابن خلدون، عالم الاجتماع العربي المعروف، والبلد الذي لا يقيم للتجارة وزنا، أحواله ليست على ما يرام ولا يستطيع أن يقابل الحوادث ويصمد في وجهها .

وليس من الخير، بل قد يصل إلى درجة من الضرر، لو أغمضنا أعيننا، أو هولنا بالمبالغة عن الاشتباهات التي قد تصاحب عادة أي عمل دؤوب ودائم الحركة، كالذي حدث في أماكن كثيرة وحدث عندنا، وقد يتكرر حدوثه مرات ومرات وتزيد المشكلات تفاقماً، إذن حدوث الأخطاء والمشكلات الناجمة عن هذه الأخطاء ليس شيئاً نادر الحدوث، ولكن يكون من غير الصواب أن لا نكون مستعدين لمجابهة الخطأ والحيلولة دون تفاقمه والعمل الفوري على تلافيه، ولا نقوم بإزالته بحجة عدم الإزعاج والإقلاق، إذ بغير المعالجة السليمة والفورية يصبح الخطأ متشعب الجذور وقد يصعب اجتثاثه إذ استمر مغروساً .

في الدول المتقدمة تحدث أخطاء جسام في سير الامور رغم الرقابة المشددة من قبل مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، وأمامنا من أمثال هذه الاخطاء في الآونة الأخيرة وإبان الازمة الاقتصادية الحالية الشيء الكثير، ولكن الإشارة إلى هذه الأخطاء ومكامنها أمر عادي ويشترك الناس جميعهم في الحديث عنها والإشارة إليها، والوقوف أمامها بغية عدم الانتشار والبحث عن العلاج، ومن هنا يتوجب أن نساير ما يفعله هؤلاء ونتبع آليات العلاج حسبما يلائم الظروف المحيطة بنا، ولا أشك ان هذا المنوال جار عندنا بشكل أو بآخر، والأمثال أمامنا واضحة وهي الإجراءات الكثيرة القضائية وغيرها التي تتخذ ضد أي متهم بالفساد الإداري، ولكن من الواجب أن نضع أمام من تضعف نفسه لارتكاب عمل فاسد وقبل أن تسول له نفسه، العراقيل والموانع، وهذه العراقيل والموانع تأتي في صورة الرقابة والأعين المفتوحة ممن لا تأخذهم في الحق لومة لائم، وفي شكل مجالس رقابية أو إدارية، يكون المسؤولون، المسؤول الكبير والصغير، معرضين فيها وأمام أعضائها للمساءلة القانونية الصارمة، وفي الوقت نفسه لا بد لعضو هذه المجالس الإدارية والرقابية ان يكون مستقلاً ومتمتعاً بسجل نظيف، وان يشعر بأنه معرض للمساءلة القضائية وغيرها أيضاً في حالة الإهمال والتردد والإغضاء عن الفساد، وتعويض الإدارة مادياً ومعنويا عن إهماله وإغضائه .

ولا بد لنا أيضاً من الاعتراف والإقرار بوقوع الخطأ، لأن الاعتراف والإقرار هما اللذان يقودانا إلى الإصلاح ومعالجة الخطأ في آنه، ولا بد لنا من القول أيضاً أن مجالس الإدارة في مجتمعنا الإماراتي للشركات العامة والخاصة المساهمة، شبه صورية، ويتحكم المسؤولون التنفيذيون في تشكيلها عندما توجد، وفي توجيهها الوجهة التي تروق لهؤلاء المسؤولين التنفيذيين، وترى الإهمال بادياً بوضوح في اجتماعات الجمعيات العمومية والانتخابات الصورية لمجالس الإدارة، دون أية رقابة من الوزارات والهيئات المختصة وهي تكاد تكون مغيبة تماماً .

وليس القول بالإهمال والصورية اتهاماً لأي مسؤول تنفيذي، فقد يكون هذا المسؤول التنفيذي أكثر حرصاً وأمانة من كثير من أعضاء الرقابة ومجالس الادارة، وقد يكون حسن النية فيما يفعله ويقوم به، ولكن الأصول الإدارية في المجتمعات المتقدمة تقتضي ان تكون الإجراءات هي أن يخضع المسؤول الإداري للمحاسبة والمساءلة من المجلس المشرف، وبالتالي يكون عضو المجلس أيضاً معرضاَ لهذه المحاسبة والمساءلة في حالة عدم قيامه بواجبه أو إهماله، وصحيح أن هذه المجالس الإدارية الرقابية تتسبب أحياناً في إبطاء الإجراءات السريعة لتنفيذ مشروع معين، ولكن المسؤول الإداري التنفيذي الذي يمتعض من المراقبين (أو قل بعض منهم) يتخذها وسيلة للمساس بسمعة المجالس الرقابية واعتبارها من العقبات في تسيير الأمور، انفلاتا منه من الرقابة على عمله، وفي رأيي أن مثل هذا المسؤول لا يصلح للقيادة لإنه غير واثق من نفسه .

وكنا في الماضي نرى بعض الموظفين الحكوميين التنفيذيين ممن انحصرت السلطة في أيديهم يحاربون فكرة هذه المجالس أصلاً واعتبارها غير مجدية لأغراص اتضحت بعد ذلك أنها لم تكن في صالح البلد، وعواقبها لم تكن سارة .

دبي وتجاوز الازمة

وكما تمت الإشارة وكما يعرف الجميع، فإن الأزمة الحالية هي أزمة عالمية، وليست الأزمة محصورة بمكان دون آخر،إلا إذا كان هذا المكان لا حظ له في مشاركة العالم أفراحه وأتراحه، كما أن الأزمة ليست في دبي وليست في الإمارات، بل هي في سائر أنحاء العالم، العالم الذي عليه المعول في إدارة اقتصاد الدنيا، كالولايات المتحدة وأوروبا، اللتين هما المنبع الأساسي لأي ازدهار أو انهيار في اقتصاديت العالم، ويليهما بعد ذلك، الدول ذات الارتباط الوثيق باقتصاد أمريكا وأوروبا، وإذا كانت أمريكا وأوروبا الغربية بالذات بخير، فبقية الدنيا بخير أيضاً، والسبب أن أوروبا وأمريكا هما المخزنان والمحفظتان لأموال العالم وموجوداته، وما الدول التي تقول رأياً مغايراً إلا دول تهرب من الحقيقة وتغوص في خيالات ونظريات غير واقعية .

إن دبي والإمارات ذات صلة وثيقة بما يجري ويدور في أمريكا وفي أوروبا، ومن مصلحة الطرفين أن تكون هذه الصلة قوية الرباط، والعمل الدؤوب على أن لا تنفصم عرى هذه الصلة والتعاون، والإمارات، ودبي على وجه الخصوص، محطة نادرة المثيل في هذه المنطقة من العالم، يلتم حولها وفوق أرضها شعوب جاءت من كل فج عميق، وتعيش فيها بأمن وسلام، ليس في هذه الأيام بل من أيام ماضية تعود إلى أكثر من مائة عام، ودبي محطة عظيمة وكبيرة لحركة التجارة والاقتصاد، وليس هناك بلد في العالم يأتي إليه المال ويخرج بهدوء وسلام مثل دبي، في دبي موانئ بحرية لا تضاهيها موانئ في الشرق الأوسط، وفي دبي، مطارات جوية لا تضاهيها ولا شبيه لها في الشرق الاوسط، في دبي مخزون من الأموال السائلة وغير السائلة لا شبيه لها في الشرق الأوسط، ويستطيع أي متعامل أن يأتي إلى دبي ليجد بغيته من البضائع المختلفة بكميات كثيرة لدى تاجر من تجار دبي، لو بحث عنها في أماكن أخرى لكان عليه أن يذهب إلى أكثر من بلد ويجوب أكثر من محل تجاري ليجمع ما يريده، في دبي يجد المتعامل الآتي من الخارج الثقة المتبادلة من عشرات السنين، ويأخذ هذا المتعامل ما يريده من البضائع والأموال ويذهب بها ليسوقها في بلده، ثم يأتي بعد شهور ليسدد ما عليه ويأخذ ما يريده مرة أخرى . في دبي، توجد بنية تحتية من ماء وكهرباء وطرق وخدمات كثيرة أخرى يندر جمعها في مدينة واحدة، إلا إذا كانت هذه المدينة متطورة عمرانياً جداً .

والحقيقة أن كل ما ذكرناه هو للإشارة والتذكير والتأكيد أن الإمارات قادرة على العمل لمواجهة الأزمات وتغيير مسارها إلى الخير، وعلينا التفاؤل الحسن، وهذا الإحساس بالتفاؤل لا ينبغي أن يظل ضمن العواطف التي تريح الاحاسيس، بل علينا أن نقرنه بالعمل الجاد الدؤوب لإزالة العقبات التي تعترض طريق السلامة والإصلاح، وفي رأيي أن أهم هذه الأعمال الجادة هو تفعيل مجالس الإدارة وجعلها قادرة على المحاسبة والمساءلة، وإشعار المسؤول الإداري أنه يأتي في صلاحيته بعد مجلس الإدارة وأن عليه أن يحسب له ألف حساب .