محمد بنيـس

شاءت الحياة الثقافية أنْ أقضيَ أياماً، من جديد، في ضيافة فضَاء الثقافتين الإنكليزية والأمريكية. عبر مهْرجَان طيران الإمارات الدولي للآداب في دبي ومهْرجَان الثقافة العربية في مركز كنيدي في واشنطن، أو عبْر زيارة نيويورك. فضاءُ هذه الثقافة كنتُ دائماً أقبل عليه بهيْـبة، لأنه فضاءُ مؤلفين من أعمدة الثقافة الحديثة. هيْـبتي هيَ نفسُها التي كنتُ أقبل بهَا على الفضاءات الثقافية الكبرى في العالم. وفيهَا الكتابُ وقراءةُ الكتاب يتحوّلان إلى سلسلةٍ منَ العجائب.
لا مفاجأة في ذلك. حقّاً. لكن ما شاهدتُ جعلني أتمتعُ بلحظة الصّعق التي أنتظرُها في ظلّ جفاف الحياة الثقافية العربية. هل هيَ مبالغة؟ لتكُنْ. أصبحتُ في حياتي اليومية المغربية أمجّ المشَاهد المتكررة للمقاهي التي تصطف على طول الشوراع والأزقة. وأتضايق من صُوَر رواد المقاهي الذين يقضون الأوقات الطويلةََ بلا ملل. وسيدات الحجاب الأسود المخيف. والكتاب الواحد الأحد. والحديث كل مرة عن الآخرة بدون أي مناسبة. كما أتضايقُ من معارضَ للكتاب لا قارئَ فيها.
أليس هناك شيءٌ ما يفيدُ أننا على قيْد الحياة ونحبّ الحياة؟ كل مرة أسأل نفسي وأنا عاجزٌ عن الجواب. ودفعة واحدة تذكرتُ، وأنَا هناك، أنهم يقرأون الكتب. هذا مُفرح. أن تشاهدَ شخصاً يحمل كتاباً، والذي بجانبه (أو بعده) يحْمل كتاباً لا يُشبه الكتاب السابق. يحمله مفتوحاً وعيناه مركزتان على الصفحة، يقرأها. ينغمرُ فيها وينسَى ما هو خارجَها، إلا بين فينة وفينة، عندما يلتفتُ لكيْ يحددَ أين هوَ أوْ ينتبهَ إلى ما عليه أن يفعل.
يقرأون الكتب. كانت المناسبة في دبي تجمعُ، بالدرجة الأولى، بين مؤلفين من أصحاب الشهرة في انكلترا وأمريكا وبين مؤلفين من بلاد عربية. أكتفي بكُتاب اللغة الإنكليزية. هم الذين يَعنُونني الآن. بعد كل ندوة يتوجهُ مؤلفون جماعياً إلى صفّ من طاولات في ركن من مقر المهرجان. هناك يجدُون جمهوراً يقف في صفوف بانتظار كل واحد منهم. والجمهورُ يحمل لكل مؤلف أعمالَه المتوفرة في المعرض. خمسة، ستة، سبعة كتب أو أكثر. قراءٌ يحملون الكتبَ بوداعة أو يضمّونهَا إلى صدورهمْ. في صف تليه صفوفٌ. متماسكة. كما لو كانُوا حصَلوا على تحَف من أعزّ وأندَر ما يحصلُ المرء عليه. صفوفاً يقفون. تجلس المؤلفة ويجلسُ المؤلف. طاولة وكرسي. يُخرجُ كل منهما القلمَ ويبدأ في الإمضاء. كلمات يتبادلها مع القارئة والقارئ. من مختلف الأجيال. يجلس المؤلفون جلسةَ من سيتفرّغ لعَمل جدّي. للكتابة، مثلاً. والأصوات المتبادلة هيَ ربما التي كان المؤلف أو القارئ يتـبادلُها مع الآخرِ، من قبل، في السر والخيال.
ومن المهْرجان إلى المكتبات. هذه المعابدُ الحديثة التي تفتح أبْوابها من الصباح حتى ساعة متأخرة من المسَاء. تلك صدمةٌ حقيقة. عندما تتأكدُ من أنّ المكتبات مكان مفتوحٌ، في خدمة القراء، الذين غالباً ما يتوافدُون على المكتبة بشكل فردي وجماعي في آن. شابة وصديقها. أبٌ وأم وأبناء. جماعة من الشبان الأصدقاء. عجوزان يتكئ كل واحد منهما على الآخر. أطفالٌ ومراهقون. هذه المكتبة مكانٌ لاكتشاف الكتب التي تقدم لقارئها ما يبقَى بهِ على صلة بالحياة. حياته اليومية أو العلمية أو السياسية أو الجسدية أو الجمالية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الطبيعية أو الفنية أو الروحية. هنا في المكتبة كنوزُ المؤلفات البشرية من لغات وحضارات وأزمنة. الإنسانُ والطبيعة والأشياءُ كلها أعيدت صياغتُها في كلمات والكلماتُ في كتب.
كان ثمة تنازعٌ في نفسي بين أن أطلعَ على عناوين ومحتويات الكتب وبين أن أتتبعَ حركات القراء. في بعض المكتبات كانت الكتبُ تستغرقني فلا أنتبهُ إلى حركة القراء. أنتقل من كتاب إلى كتاب ومن رفّ إلى رفّ. أنقب عن مؤلفين وعناوين كتب. أختارُ مؤلفاً أو عنواناً ثم أعود لأختار ثانياً وثالثاً. أو أحتارُ في ما أختار. أتحسّر لأنني لا أستطيع حمْل كل ما يعجبني، وأنتشي بالعثور على كتاب أعرفُ أنني لن أجدَه بهذا اليُسر في الرباط أو الدار البيضاء. ولا حتى في باريس، التي فيها مكْتباتي المفضلة. على أنّني لا أدرى لمَ كنتُ، هذه المرة، مفتوناً بالقراء أكثر مما كنتُ مفتوناً بالكتب. كنتُ أحسّ بغبْطة لا حدودَ لها وأنا أشاهد قارئاً يختار بدقة كتاباً ربما كان يبحث عنه من قبلُ أو ربما عثر عليه لأول مرة أوْ ربما استهواه ورغب في قراءته.
في دبي كان المكانُ محدوداً والمؤلفون قادمينَ من بلاد تكتب بالإنكليزية، وكان الجمهورُ في أغلبه من الإنكليز والأمريكيين المقيمين في المنطقة. عائلاتٌ يقتني كل فرد من أفرادها كميةً من الكتب. ولا شك أنه الجمهور نفسُه الذي كان يقفُ بانتظار إمضاء أكثر من مؤلف. يعود بعد كل ندوة إلى مكان التوقيع بعد أن يكونَ اختار العناوينَ التي يحرص على اقتنائها. وفي كلّ من واشنطن ونيويورك مكتبات يُجاور بعضها بعضاً. مكتباتُ المتاحف ومكتباتُ المسارح ومكتباتُ المتاجر السياحية ومكتباتُ المقاهي والأندية ومكتبات الكتُب. عالَمٌ له تاريخٌ وتقاليد. وتتكون مكتباتُ الكتب، كما في بعض الدول الأروبية، منْ طوابق تقضي في كل واحد منها وقتاً طويلاً قد يمتدّ لنصف ساعة أو أكثر. صمتٌ مُتواصلٌ داخل المكتبة. أحياناً قليلة يصلك الهمسُ بعبارات متبادلة بين القراء والمكتبي. استفسارٌ عن عنوان. أو عن مؤلف. ورغم أن هذه المكتبات تحولتْ، في أغلبها، إلى مراكز تجارية تتحكم فيها الكتب الأكثر مبيعاً ويستولي عليها المؤلفون النجوم، فإنها تحتفظ بخصوصية المكتبة من حيثُ هي مكانٌ للتنوع في الكتب المعروضة.
ولا أقارنُ بين وضعنا في العالم العربي وبينَ هذا الفضاء الإنكليزي أو الأمريكي، بل أتجنبُ التفكيرَ في أيّ نوع من أنواع المقارنة. ثم أرجئُ التفكير في مستقبل الكتاب المهدّد بالانقراض، وفي سيطرة مؤسسات التوزيع الكبرى التي تعامل الكتاب مثل أيّ سلعة، وفي عُمر الكتب الجيدة الذي يتناقصُ يوماً بعد يوم. أرجئ كل ذلك إلى وقت أتخلّص فيه من الافتتانِ بمُشاهدة القارئ الذي يُقبل بشغف على المكتبة. يدخل إليها بمَرح تلمسه في تقاسيم الوجْه. وفي حركة اليد وهي تمتدّ لاختيار كتاب. ثمةَ ما يُفرح. هناكَ، نعمْ. تذكرتُ أنهم يقرأون الكتب.