من أبوللو إلى تورا بورا

عبد الوهاب بدرخان


قبل أربعين عاماً أصبح القمر أميركياً ولا يزال. أحد عناوين استشعارات الحدث في quot;نيويورك تايمزquot; كان واضحاً: quot;Our Moonquot; (قمرنا). خطوات نيل آرمسترونج الأولى على أديم الكوكب بدت مشهداً عادياً في التلفزيون، على الأرض كان هناك جيش من العاملين قد أعدّ على مدى أعوام لتحقيق هذا الإنجاز. الخيال أصبح حقيقة. العلماء في عيد، الشعراء في مأتم، العشاق متلعثمون، ورجال الدين في التباس، فالمسلمون أشاروا إلى رحابة في القرآن قادرة على استيعاد الحدث واليهود اهتموا بما يمكن أن يُستفاد منه والمسيحيون استذكروا كل النزاعات بل الحروب السابقة والمستمرة بين العلم والإيمان. كانت لحظة تغيّر في العالم، أو قل في الكون. كأن صورة العلم الأميركي مغروساً في تربة القمر شكلت بداية العولمة بكل ما لها وما عليها.


من الكلام الكثير الذي قيل في تمجيد الإنسان الذي صنع هذا النجاح العلمي، لم يبق في الأذهان سوى أن صورة العَلَم كانت الشاهد بأن أميركا ربحت معركة في الحرب الباردة. فتلك الحرب شكلت حافزاً ضاغطاً لإحراز التفوق قبل الاتحاد السوفييتي الذي كان آنذاك متقدماً، على ما يقول الخبراء، في الأبحاث الفضائية. ها هو يخسر هذه الموقعة، وسيخسر بعدها quot;حرب النجومquot; التي ظلت افتراضية تدور في أفلام هوليوود لكنها لو تحققت لأدت إلى كارثة بشرية هائلة. فمجرد افتراضيتها آلت إلى تفكك المعسكر الاشتراكي تلقائياً وتدريجياً. ذلك أن الصعود إلى القمر لم يكن من أجل الاكتشاف العلمي البحت، وإنما بهدف عسكرة الفضاء، الذي لا يزال معسكراً إلا أن نهاية الحرب الباردة أعادت الحدث إلى واقعيته العلمية والاستكشافية، وهذا ما أتاح لـquot;ناساquot; أن تشرك مساهمات دولية أخرى في عملها، خصوصاً أن ميزانيتها لا تنفك تتقلص، ثم أن الأنشطة المتفرعة عن رحلة quot;أبولوquot; وأخواتها اجترحت مجالات كثيرة للبزنس الفضائي.

بعد أربعة عقود، تحديداً في خريف ٢٠٠٨، كانت الصورة تنقل يوماً بيوم ولحظة بلحظة وقائع حدث آخر استطاع أن يتمرد على كل الضوابط وأن يتملص من كل قواعد العلم وأن يضع بالتالي مصيراً مختلفاً للعولمة. إنها الأزمة المالية، وانهيار البورصات، وبعكس quot;أبوللوquot; التي اندفعت صعوداً تدافعت الأسهم في الاندفاع هبوطاً. لذلك، فعندما يقال اليوم quot;إلى المريخ بعد القمرquot;، أو إلى القمر ثانية بحلول ٢٠٢٠، تتصاعد الأصوات متسائلة: ما الهدف؟ ما الفائدة؟ ولِمَ تستهلك كل تلك البلايين من الدولارات؟ وما الذي تراد برهنته بعد؟ الأميركيون والعالم يريدون محصلة للتأكد بأن المصلحة المحققة تبرر الكلفة الفلكية. طبعاً، لا يمكن إيقاف المسيرة العلمية، لكن التطور العلمي العظيم الطائر في الفضاء لم يعد يقنع أهل الأرض بأنه ينعكس خيراً وسلاماً على كوكبهم. ثم إن الحروب الساخنة أو الفاترة التي أعقبت الباردة لم تُربح حقاً على رغم التفوق التكنولوجي والعسكري، فالعراق وأفغانستان وقبلهما كوسوفو وحتى الصومال، شكلت نوعاً من المواجهة بين الأرض والفضاء، وبرهنت الأرض أنها لم تبح بكل أسرارها.

quot;اذهبوا إلى القمر لكن لا تنسوا الأرضquot;. تلك كانت وصية بابا الفاتيكان يوحنا بولس السادس يوم ٢٠ يوليو١٩٦٩. أشار إلى أن آلات الإنسان وأسلحته باتت أكبر وأخطر لتمكنه من السيطرة على الكون والمؤمل أن تمكنه من السيطرة على نفسه، مذكراً الأميركيين بأنهم صاعدون إلى القمر فيما الحرب تستعر في فيتنام، والأرض تغلي في الشرق الأوسط بعد حرب ١٩٦٧ والمجاعة تتسع في بيافرا (نيجيريا) ونزاعات أخرى توشك أن تندلع في أكثر من مكان... لم تكن الأرض تتصور أنها ستُنسى إلى هذا الحد وأنها ستبقى منسية، مع أنها لم تكفّ عن إرسال إشارات إنذار إلى أنها بحاجة ملحة للعناية. الصورة، أيضاً باتت تسجل مفاعيل التغير المناخي ومخاطره الداهمة، بل إنها تصفع العيون بنتائج التقصير الإنساني في الحفاظ على البيئة، بل إنها تزعزع القلوب والعقول في إظهارها للتناقض، المفزع بين روعة غزو الفضاء ومآسي الفقر والأوبئة والغضب الـquot;تسوناميquot; المهلك.

الأكيد أن آرمسترونج ورفيقيه لم يصعدوا إلى القمر للبحث في القمامات عن لقم عيش، وربما كانوا يعلمون أن التطور العلمي الذي أوصلهم إلى هناك هو نفسه الذي مكّن رفاقاً لهم من محق ألوف البشر في هيروشيما ومن إعدام عشرات آلاف الأميال المربعة من الغابات في فيتنام. المؤكد أنهم لم يتصوروا في تلك اللحظة أن رفاقاً آخرين بعد ثلاثة عقود سيستخدمون قدرات الأرض والفضاء لاستكشاف مغاور quot;تورا بوراquot; واقتحام منازل الفلوجة وقندهار. بل لعلهم يتساءلون اليوم كيف أن العقول التي استوطنت الفضاء لم تستطع بعد قهر الإيدز والسرطانات ناهيك عن إنفلونزا الطيور والخنازير. تطورت العلوم لكن العقول لم تتغير. تغيرت الحروب وللأسف غيرت القلوب أيضاً.