خالد غزال

أشارت وسائل الإعلام الإيرانية والعالمية إلى laquo;جهدraquo; تقوم به الأجهزة الأمنية الإيرانية في مصادرة الصحون اللاقطة المنصوبة على أسطح المنازل، منعا لاستخدامها في التقاط شبكات الإعلام الخارجية والمحطات الفضائية غير الإيرانية. يأتي هذا الإجراء بعد عملية منتظمة لم تتوقف حتى الآن في إغلاق مواقع الإنترنت وحجبها عن الجمهور، وإقفال الإذاعات ومحطات التلفزة غير الرسمية في جميع المناطق الإيرانية، وقبلها أيضا إغلاق الصحف المعارضة ومصادرة كل
ما يمت الى تعريف الشعب الإيراني والعالم بما يجري من أحداث داخلية.

تهدف هذه الإجراءات جميعها الى تقديم صورة أحادية حول ما يجري في إيران، هي الصورة الصادرة عن المؤسسة الرسمية، واتباع سياسة laquo;تجهيلraquo; شاملة عبر الإقفال على العالم ومصادرة الفضاء الخارجي بشتى الوسائل.
ورغم كل الإجراءات التي اتخذها النظام في هذا المجال، فإن العالم ظل على تواصل ومعرفة بمجريات الأحداث. يعيش أركان النظام وهو غير مدرك لمدى التطورات التي حصلت في العالم، وخصوصا في مدار ثورة الاتصالات والإعلام، بحيث يستحيل نجاح إجراءات التجهيل بشكل كامل. لا يعني ذلك أن النظام لم ينجح في حجب الكثير من الممارسات القمعية التي قام بها، لكن هذا الحجب ظل جزئيا، وأمكن إعلام العالم الخارجي بما يجري بشكل واسع، وبوسائل تقنية لجأ إليها المتظاهرون، خصوصا منها الهواتف الخلوية المتطورة التي تحولت الى وسائل إعلام فتاكة، كاشفة القمع الحاصل. هكذا يمكن القول بعجز مصادرة الفضاء الخارجي من قبل الأجهزة الأمنية، واستمرار العالم على تواصل مع الأحداث الجارية، متحدية العقلية السائدة التي لاتزال تعيش وهم الإقفال على نفسها، وعلى المجتمع بشكل عام.
الصور النمطية والخوف من الكلمة
تعيد الصورة النمطية التي يرغب النظام الإيراني تظهيرها واحتكارها الى الأذهان، ما عرفه العالم بشكل مماثل في ظل أنظمة شمولية، خصوصا في الدول ذات الانتماء الشيوعي السابق، والأنظمة النازية والفاشية، من دون نسيان صلة أنظمة الاستبداد العربي بهذا النهج.
ينتمي النظام الإيراني الى فصيلة الأنظمة الشمولية التي قامت في العالم مستندة الى إيديولوجيا تحتكر بموجبها الحقيقة وتقدم تصوراتها وأفكارها بصفتها القانون الوحيد الذي على الشعب اتباعه، بما فيه من قولبة للمجتمع والحياة السياسية في وجهة محددة. ينبع من هذا التوجه نظام يرفض الإقرار بحق تكوّن قوى سياسية معارضة، وحجبا لحرية الفكر والرأي والتعبير، وفرض الرأي الأحادي على الحياة السياسية والاجتماعية. تتميز هذه الأنظمة بالخوف من الكلمة، ومن معرفة الشعوب الأخرى حقائق ووقائع ممارساته، ويصر على تقديم صورة محددة، هي تلك التي يراها مناسبة من وجهة نظره في التعميم. لذا يرى في وسائل الإعلام الأجنبية وغير الخاضعة لسلطته قوة متآمرة على الشعب والنظام، وأنها تمثل laquo;الشيطان الأكبرraquo;، طالما أنها لا تكتفي بما يقدمه النظام ووسائل إعلامه من معلومات ووقائع.
ولأنّ هذا النظام يقوم على إيديولوجيا متشددة في عصبيتها ورفضها للآخر، مضافا إليها حال من الانغلاق الذهني والفكري عما يجري من تطورات، وهو جهل ليس بما يجري في العالم فقط، بمقدار ما هو جهل بالمشكلات الداخلية التي تعصف بالمجتمع الإيراني، وتتسبب في انفصام بين واقع النظام وطبيعة القوى المتكونة على امتداد ثلاثة عقود. صحيح أن النظام قادر على كمّ الأفواه، وعلى حجب حيز كبير من الوقائع الجارية لمدى زمني محدد، لكنّ هذه الإجراءات المتسمة بالعنف، لا تدلل على قوة هذا النظام ومؤسساته، والسيطرة على مقاليد الأمور.
لعب دور الضحية
يعجز هذا النظام، على غرار كل الأنظمة الشمولية عن الدخول في نقاش داخلي لمشكلاته مع القوى ذات الآراء المختلفة، كما يعجز عن تقديم صورة فعلية عن علاقته بشعبه تجاه العالم، فهو مضطر لتقديم نفسه الضحية والمستهدف من الخارج، والمدافع القوي عن القيم التي يدعي حمايتها، وخصوصا أنها هذه المرة تأتي في صيغة حماية الدين ومبادئه من أعداء النظام.
يعيد النظام الإيراني، عبر سياسته في مصادرة الإعلام بمختلف جوانبه، التذكير بما كان يعرف بـlaquo;الستار الحديديraquo; الذي مارسته أنظمة ديكتاتورية في العالم. على رغم الاختلاف الجذري بين معطيات تلك المرحلة من التاريخ، وبين الزمن الحاضر، لأن أنظمة laquo;الستار الحديديraquo; عجزت آنذاك وبشكل كامل عن حجب صورة ووقائع مجريات الأحداث الجارية، ومعها نمط ممارسة النظام وعمليات الاضطهاد التي كانت تصيب شعوبها.
في زمن تحول فيه العالم الى laquo;قرية صغيرةraquo; بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، يبدو النظام الإيراني مشدودا الى تاريخ وزمن لم تعد له صلة بمجريات التطور، تعيش المؤسسة السياسية- الدينية- العسكرية في إيران خارج منطق التاريخ، بحيث لن تنفعها سياسة استحضار الماضي وإسقاطه على الحاضر. فالنظام دخل في أزمة حقيقية تخترقه أفقيا وعموديا، وأقصر الطرق لتفاقم أزماته هو عدم الاعتراف بها، واستخدام القمع وسيلة وحيدة لمنع تفجرها، ويكمن الخطأ الأكبر في الإقفال على التناقضات والتفاعلات الجارية، وإبقاء الشعب في حالة من الجهل والتجهيل وسيلة للهيمنة.
يتميز المجتمع الإيراني بالكثير من الحيوية والتفاعل مع التطورات التي تجري على صعيد التواصل مع العالم المتقدم، وعلى صعيد مواجهة الاضطهاد الذي يخضع إليه في الداخل. تجلت هذه الحيوية في مناسبات عديدة في تاريخه خلال نضاله ضد الاستبداد، من الثورة الدستورية العام 1906، الى ثورة محمد مصدق العام 1953، الى الثورة الإسلامية ضد الشاه العام 1979، وصولا الى التظاهرات الأخيرة ضد التزوير الانتخابي، حيث أعادت هذه الأحداث نماذج من الثورات السابقة برفعها الشعار المركزي: laquo;فليسقط الديكتاتورraquo;. في كل هذه المحطات عجزت الأجهزة الأمنية عن الإقفال على الأحداث والاستمرار في سياسة التجهيل، وهو أمر يتكرر اليوم وسط استحالة حجب المعلومة، مهما كان حجمها، في ظل ثورة المعلومات والاتصالات.
لن يتأخر الزمن الذي ستكتشف فيه مؤسسات السلطة في إيران أنها تلهث خارج التاريخ، وأن ثأر التاريخ من السير عكسه، أمر شبه حتمي كما بدا في الأزمة الإيرانية نفسها.