رشيد الخيّون

أخذت خطبة رجل الدين السعودي الشاب محمد العريفي حيزاً كبيراً في الإعلام، ولولا الأوضاع السياسية الحرجة والطائفية الأحرج ما عبرت كلمات ذلك الشاب حيطان مسجده. وما سمعتُه من على لسانه كان اجتراراً لخلاف غابر، عجز عن حله الأولون والآخرون، وتثبيتاً لمبدأ الفرقة الناجية، وحيازة الإسلام والإيمان لبضعة ألوف أو ملايين دون غيرهم من بني البشر. تلك خلافات تفرعت عن قضية الإمامة، وهي سياسية صِرفة، quot;كثر فيها القيل والقال...quot; (رسائل إخوان الصفا)، وquot;ما سُل سيف في الإسلام...quot; إلا عليها (الملل والنِّحل).

كذلك كان ضيق الشعراء بالخلاف حولها، قال ابن الحجَّاج (ت 391 هــ): quot;مرَّ بي يوم جمعةٍ شيخان... علوي وآخر عثماني... قال هذا بعد النَّبي عليٌ... ودعا منصفاً إلى البرهان... قال هذا: بعد النَّبي أبو بكر... وجاءا ليَّ يستفتياني...quot;. وسمعتُ لوعة أحد النَّجفيين من هذا الخلاف، ومما يبنى عليه، وهو من أسرة معروفة، وأثبتُ القصة في كتاب quot;المشروطة والمستبدةquot;. قال: quot;يا رب العباد، إن أردتها لأبي بكر، لقلت صراحة إنها له! وإن أردتها لعلي لقلت له! لكفيتنا يا ربِّ شرِ الفِرقة...quot;.

ولدرء الطائفية رفع علماء كبار، من المذهبين، رايات المودة والتراحم، وتقربوا وقاربوا الأتباع، ومن هؤلاء الدريين: شيخ الأزهر الإمام محمد شلتوت (ت 1963)، ومرجع الشيعة السيد حسين البروجردي (ت 1961)، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954). وكان من نتائج ذلك أن أفتى شلتوت بصحة التعبد بالمذهب الإمامي، في 17 ربيع الأول 1378 (الوحدة الإسلامية). وأمامي صورة طبق الأصل لتلك الفتوى، وموشاة بإمضاء الشيخ، والتي يصر مَنْ في قلبه غلٌّ على نفيها!

ومن نتائج التقارب أن شهد كاشف الغطاء، العام 1931، quot;المؤتمر الإسلاميquot; المنعقد بالقدس، لنصرة فلسطين، ويومها أجمع مائة وخمسون عالماً مسلماً، من مختلف المذاهب والبلدان، وباقتراح من مفتي القدس أمين الحسيني (ت 1974)، أن يؤمهم كاشف الغطاء في الصلاة، وكان عدد المصلين خمسين ألفاً (كاشف الغطاء ودوره الوطني والقومي). وقد أرسل الشيخ يديه وضم المصلون أيديهم إلى الصدور. ومن قبل حدث تفاهم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1792) والشيخ كاشف الغطاء الكبير (ت 1812)، وكانت كربلاء والنَّجف تُغزيان من قِبل الإخوان النجديين.

جاء في تاريخ أسرة آل كاشف الغطاء: quot;التجأ (كاشف الغطاء) إلى تدارك الأمر من زعيمهم الأول، لما أخبر به من عقله ووفور معرفته، فجعل يكاتبه على البعد، ويطلب منه الأمان بأنواع اللطائف والحيل، حتى سمح له بذلك، وأمر جنده بأن يكفوا شرهم عن النَّجف ففعلوا، فلم تأتِ غارة للنَّجف مدة بقاء محمد الوهابي على قيد الحياةquot; (العبقات العنبرية). أريد القول إن التفاهم ممكن حتى في أحلك الظروف.

كانت خطبة العريفي مؤججة لافتراس الآخر، وفيها حماسة الشباب ومراهقة العلم، ووصف فيها السيد علي السيستاني، بالمشين من الكلام، بينما كان لعباءته الفضل في صد الفتنة الكبرى، فهو لم يرد على قسوة أبي مصعب الزرقاوي (قتل 2006) إلا بالحكمة. فعندما استفتاه جماعة حول تصريحات الزرقاوي القاضية بقتل الشيعة، جاء جوابه: العمل على ضبط النَّفس، والحذر من الفتنة (النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني).

وإن ذهب العريفي إلى ما ذهب، فالأمل في العقول النيرة لتجاوز نفق الطائفية المظلم. لم تمنع الصحافة السعودية ردود المثقفين السعوديين، وإعطاء السيستاني حقه، فلما دعا توماس فريدمان في جريدة quot;الشرق الأوسطquot; (21 مارس 2005) إلى منحه جائزة quot;نوبلquot;، زاد جمال الخاشقجي (رئيس تحرير quot;الوطنquot; السعودية) بالدعوة إلى منحه quot;جائزة خدمة الإسلام وليس نوبل فقطquot;. قال: quot;أما مسوغاتي فهي سعيه الحثيث لمنع وقوع حرب أهلية بين الشيعة والسُنَّة في العراقquot; (quot;الغدquot; الأردنية، 2 مايو 2005).

ومن جانبه كتب تركي الدخيل في جريدة quot;الوطنquot; السعودية (17 يناير 2010): quot;والشيعة سعوديون أيضاًquot;، فقال: quot;هناك فرق بين الواقع الطائفي الذي تمر به المنطقة، وبين الاستسلام للطائفية والدخول في ماكينتها المؤذية. فكوني من السُنَّة لا يعني أنني أصطف ضد سعودي آخر هو شريكي في المواطنةquot;، فالدخيل يعلم أن سعوديين يقلدون المرجع الساكن النَّجف. وكتب عبد الرحمن الراشد في quot;الشرق الأوسطquot; (21 يناير 2010): quot;العريفي واحد من ألف من الوعاظ، الذين انخرطوا في التراشق الطائفي... لا يفهمون السياسة ويصدقون ما يسمعون من الخزعبلاتquot;.

واستهلت سمر المقرن في quot;العربquot; القطرية (18 يناير 2010): quot;لا يشرفني ولا يسرني ما فعله العريفيquot;. وللكاتب محمود بن علي المحمود في جريدة quot;الرياضquot; السعودية الرسمية، التي يرأس تحريرها الصحافي العتيق والمتنور تركي السديري (21 يناير 2010) وقفة مع خطاب العريفي: quot;التكفيريون الطائفيون لا يهمهم الوطن حقيقة، بل كل ما يهمهم التمكين للتقليدية التكفيرية التي يعتنقونها. حقيقة، لا يهمهم الوطنquot;. هذا ولكتاب سعوديين آخرين وقفات مع الشيخ الشاب: حمد الماجد وخالد المشوح في quot;الشرق الأوسطquot; وquot;الوطنquot; السعوديتين، ولكتاب من أهل السُنَّة من الخليجيين، مقالاتهم في هذا الصدد، مثل الدكتور عبد الحميد الأنصاري في quot;الوطنquot; القطرية مثلاً. وإن ذكرنا أهل تلك الأقلام ليس لنا إغفال شيخ من الوزن الثقيل، مثل عبد المحسن العبيكان، مستشار في الديوان الملكي السعودي، حيث قال: quot;الرأي الذي خرج به العريفي مرفوض تماماًquot; (العربية نت).

تبقى الملاحظة، أن العريفي، حسب ما يصفه السعوديون، ما يزال أمامه مشاور الشهرة الفعلية في الفقه طويلاً، ولولا الاهتمام بكلماته ما أخذ صداها هذا الحيز من الجدل، فهو لم يرق إلى اهتمام رئاسة حكومة، ولا تُهد العلاقات بين دول بسببه، ولا كلماته هي الفصل حتى تحشد لشجبها المسيرات، فمثله ليقول، ويبقى الكبار كباراً مثل عمرو بن عبيد (ت 144 هـ) شيخ المعتزلة الذي قيل له: quot;وقع فيك اليوم أيوب السجستاني حتى رحمناك! قال: إياه فارحمواquot; (العقد الفريد).

أقول: لابد من ترشيد الخطاب الديني، ومراعاة ما يبث عبره من محبطات، إلا أن الأمل بالأماثل من العلماء الذين ذكرت، والمثقفين الذين استشهدتُ. وأحسب أن المجتهد محمد سعيد الحبوبي (قتل 1915)، قد تجاوز نهايات الجغرافيا وخلافات العقائد عندما قال: quot;بلادك نجدٍ والمحبُ عراقي.. فغير التمني لا يكون تلاقيquot; (الديوان)، وأرى المستقبل، خارج هيمنة الطائفيين، كما نَعم في خياله الشاعر الفقيه.