خليل علي حيدر

تلت الثورة الفرنسية الكبرى 1789 ndash; 1792 ثورات أخرى في فرنسا واحداث جسام وقعت احداها عام 1830 قبل عودة رفاعة الطهطاوي الى مصر بعام. ولم يكن الطهطاوي غافلا عما يجري حوله من احداث اذ كان قارئا نهما ومتابعاً للصحف أو laquo;الكازيطاتraquo;، ومراقباً للأوضاع والتطورات. وقد تناول عدة موضوعات سياسية في كتبه المتتابعة مثل ترجمة الدستور الفرنسي لعام 1814، ووصف احداث ثورة 1830 والتعليق عليها والتعريض بأهم التيارات السائدة فيها. وكان الطهطاوي يستخدم كلمة أو مصطلح laquo;بوليتيقاraquo;، ولم يكن مطمئنا الى ان هذه الكلمة تقابل كلمة laquo;السياسةraquo; أو laquo;علم السياسةraquo;، وحاول التعبير عن الاصطلاح الاوروبي laquo;بوليتيقاraquo; بعبارات من قبيل فن السياسة الملكية، فمن الادارة، علم تدبير المملكة. ويتحدث في كتاب التخليص عن مؤسسات الحكم في فرنسا ويجمل كلامه بالقول laquo;إن ملك فرانسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنساوية قانون مقيد، بحيث ان الحاكم هو الملك، بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين. والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن يتخذونه أساساً لسياستهم ndash; يقصد دستور البلاد ndash; هو القانون الذي ألفه لهم ملكهم المسمى لويز ndash; أي لويس ndash; الثامن عشر، ولازال متبعاً عندهم ومرضيا لهم.
ويلاحظ الطهطاوي، من الزاوية الشرعية، بخصوص بعض قوانين فرنسا الاساسية، laquo;أن غالب ما فيها ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلمraquo;. ولكن الشيخ يشير الى هذه القوانين الوضعية ليعرف القارئ كيف قد حكمت عقول واضعيها، laquo;بأن العدل والانصاف من اسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقاد الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلماً أبدا، والعدل اساس العمرانraquo;.
ولا شك أن الشيخ الفاضل كان متفائلاً غاية التفاؤل بخصوص غياب الظلم وهيمنة العدالة، فما أن حل عام 1848 حتى اكتسحت اوروبا وفرنسا معها ثورة كبرى معروفة! تحدث الطهطاوي عن حقوق الانسان الفرنسي وقال: laquo;سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعةraquo;. بموجب المادة الاولى من الدستور. وتحدثت المادة الثانية عن الضرائب laquo;كل انسان على حسب ثروتهraquo;، والثالثة عن حق laquo;كل واحد منهم متأهل لأخذ اي منصب كان وأي رتبةraquo;، والرابعة عن حرية الانسان الفردية laquo;فلا يتعرض له انسان الا ببعض حقوق مذكورة في الشريعةraquo;.
وأكدت المادة الخامسة أن laquo;كل إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يحب، لا يشاركه احد في ذلك، بل يعان على ذلك ويمنع من يتعرض له في عبادتهraquo;. ونصت المادة السادسة على laquo;أن تكون الدولة على الملة القاثوليقية ndash; أي الكاثو ليكيةraquo;. والمادة الثامنة، كما ينقلها الطهطاوي، laquo;لا يمنع انسان في فرانسا ان يظهر رأيه وان يكتبه ويطبعه بشرط الا يضر ما في القانون، وعن المساواة امام القانون قال ان معناها laquo;سائر من يوجد في بلاد فرانسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في اجراء الاحكام المذكورة في القانون، حتى ان الدعوة الشرعية تقام على الملك، وينفذ عليه الحكم كغيرهraquo;. ويعلق الطهطاوي على هذا كله فيقول: laquo;فانظر الى هذه المادة، فإن لها تسلطاً عظيما على اقامة العدل، واسعاف المظلوم وارضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم.. وهي من الادلة الواضحة على وصول العدل عندهم الى درجة عالية، وتقدمهم في الاداب الحضرية.. وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه، هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والانصافraquo;. ويقر الطهطاوي مع هذا بأنه، اذا وجد العدل في قطر من الاقطار فهو نسبي اضافي لا عدل كلي حقيقي، فإنه لا وجود له الان في بلد من البلدان، فهو كالايمان الكامل والحلال الصرفraquo;!