عادل الطريفي


قبل أسابيع من الاستفتاء المرتقب بجنوب السودان، أعلن الرئيس عمر البشير أن بلاده ستقوم بتطبيق laquo;الشريعة الإسلاميةraquo; في شمال السودان في حال قرر سكان الجنوب الانفصال عن شماله، حيث قال في اجتماع حاشد لمؤيديه مستشهدا بعدد من الآيات والأحاديث الدينية: laquo;في حالة انفصال الجنوب سنقوم بتعديل الدستور لذلك لا مجال لحديث عن التعدد الثقافي والإثني.. ستكون الشريعة والإسلام هي المصدر الرئيسي للدستور.. وسيكون الإسلام هو الدين الرسمي للدولة وستكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولةraquo;، وبخصوص انتشار مقطع فيديو لفتاة سودانية يتم جلدها أمام العامة، قال البشير: laquo;البعض يتحدث عن الفتاة التي جلدت وفق حد من حدود الله، والذين يقولون إنهم خجلوا من هذا عليهم أن يغتسلوا ويصلوا ركعتين ويعودوا للإسلامraquo;، مؤكدا أن laquo;الحدود في الشريعة الإسلامية تأمر بالجلد والقطع والقتل، ولن نجامل في حدود الله والشريعة الإسلاميةraquo;.

حقيقة، تصريحات الرئيس عمر البشير مستغربة لسببين: أولا، لأن تطبيق الشريعة من حيث المبدأ معمول به منذ سبتمبر (أيلول) 1983، حين فرض الرئيس السابق جعفر نميري laquo;قوانين الشريعة الإسلاميةraquo; كتبرير لتجدد الحرب على الجنوب. ثانيا، الرئيس البشير نفسه كان قد أعاد التأكيد على كون الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع في دستور 1991. إذن، لماذا اعتبر الرئيس البشير أن السودان بحاجة إلى تطبيق laquo;شريعةraquo; هي بالأساس مطبقة منذ ثلاثة عقود على الأقل؟

في يونيو (حزيران) 1989، قام الرئيس عمر البشير بانقلاب عسكري على حكومة 1986 المنتخبة ديمقراطيا، البشير الذي كان ينتمي لحزب الإخوان حظي بدعم أغلبية تيار الإسلام السياسي في السودان وخارجه، وبمعاونة الشيخ حسن الترابي حول الاثنان السودان من دولة مدنية متعددة الأعراق إلى جمهورية إسلامية متأثرة بالنموذج الخميني، وخلال التسعينات أصبح السودان أرضية لتجمع الإسلاميين فيما عرف بـlaquo;المؤتمر الشعبي العربي الإسلاميraquo;، حيث تمكن الترابي من جمع رموز الممانعة والمقاومة من الإسلاميين والقوميين تحت راية واحدة مستهدفا الأنظمة العربية المجاورة. داخليا، عملت الحكومة على أسلمة كل مناحي الحياة من الجامعات، والأنظمة الحكومية، والبنوك والتأمينات، حتى استقطبت كل العناصر الجهادية من أفغانستان - كأسامة بن لادن والظواهري -، ولكن وبعد محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك (إثيوبيا عام 1995) حدث شرخ ما بين الدولة العسكرية التي يمثلها البشير، والنظام الثوري الحركي الذي يمثله الترابي. انتهى المطاف بالترابي منشقا في 1999، واستطاع البشير عبر سلطاته المتعددة أن يستغني عن مرشد laquo;الانقلابraquo;، وأن يجتذب بقية الإسلاميين إلى جانبه عبر المزايدة على إسلامية الترابي، حتى إن نظام البشير بات في السنوات الأخيرة يتهم الترابي بإصدار فتاوى laquo;زندقةraquo; منافية للشريعة، وهي ذات التهمة التي شنع بها الأخير على محمود محمد طه مما تسبب في قتله مرتدا في 1985.

يقول البشير عن الترابي: laquo;كان في زول شيخنا وزعيمنا لكن لقيناه راجل كذاب ومنافق.. هناك أناس هم أعداء للوطن وأعداء للشعب السوداني لا يريدون للحرب أن تتوقف أو للموت والدمار أن يتوقفا.. هم يريدون أن يمزقوا البلد ويحرضوا المسلمين على قتال بعضهم بعضا.. ما هو حكم من يحرض على قتل المسلم ويتسبب في سفك الدماء؟ الغريب أن هذا الرجل قضى كل عمره في غش الناس ينادي بالشريعة، واليوم قال لا أريد الشريعة.. والخمرة كانت في مدينة الرسول.. هل سمعتم بمثل هذا الحديث؟ وهل سمعتم أنه كانت هناك مريسة تباع في مسجد الرسول.. والبارات التي أغلقها نميري قالوا إنهم يريدون فتحها في الخرطوم.. لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الترابيون.. ولو كره المنافقونraquo; (laquo;الأيامraquo;، 5 أبريل 2004).

لقد نجح البشير في إقصاء الترابي، ولكن الثمن كان في المزايدة على إسلامية laquo;الإنقاذraquo;، بحيث بات السودان في نظره ليس laquo;شرعياraquo; بما فيه الكفاية. خلال العقود الثلاثة الماضية، جادل الإسلاميون بأن مشكلة السودان هي في التدخل الأجنبي - لا سيما الأميركي - الساعي إلى تفكيك أكبر البلدان الأفريقية، وكان يحلو للترابي وغيره أن يحملوا الاستعمار أسباب فشل الوحدة السودانية، حتى البشير الذي كان قبيل الثورة يقود لواء للجيش في الجنوب، برر انقلابه كرد فعل على فساد الطبقة السياسية، وسعيها إلى التنازل عن أرض الجنوب.

لقد تسابق كل من الترابي والبشير إلى التخلي عن الجنوب، حيث وقع الترابي مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في 2001، وتلقى تهم الخيانة من رفاقه السابقين، فقط ليوقع المؤتمر الوطني اتفاقية laquo;نيفاشاraquo; في 2005. اليوم يجادل كلا الرجلين بمسؤولية الآخر عن الانقسام المرتقب للجنوب. ثلاثة عقود من حكم الإسلاميين تسببت في تجدد حرب الجنوب، وحدوث تصفية عرقية في دارفور، وتمرد مسلح في شرق السودان. كان ذلك نتيجة للمنهج المتشدد الذي اتبعه الإسلاميون، وتحالفهم مع كل القوى الراديكالية في المنطقة. لقد اتهموا الكنائس بالتنصير، والأميركيين بدعم الانفصاليين، والصهيونية بالمسؤولية عن التركة الاستعمارية، ولكنهم لم يتوقفوا للحظة واحدة لمناقشة سوء سياساتهم، أو نتائج تطرفهم الديني والسياسي.

في الوقت الذي يهدد البشير فيه بتطبيق laquo;الشريعةraquo; وفق فهمه الخاص، ويتوعد بإلغاء التعددية الثقافية والعرقية في الشمال، فإنه يؤكد على حقيقة أن حكم الإسلاميين هو مزيج من الاستخدام المسيس للدين بغرض البقاء في السلطة، ولعله ليس بمستغرب أن تؤول كلتا التجربتين الإسلاميتين في إيران والسودان إلى حكم عسكرتاري بثوب ثيوقراطي. هناك أكثر من مليوني سوداني غير مسلم يسكنون في الشمال فقط، وسيكون من سوء حظهم أن ينفذ النظام السوداني تهديداته بعد 9 يناير.

ما لا يقوله الرئيس السوداني في خطبه الحماسية، هو أنه عبر للأميركيين سرا بأن حكومته قد تقبل بالتقسيم في حال تعهد الأميركيون باستمرار تقاسم نفط الجنوب مع الشمال، لأن الطرفين لا يحتملان توقف النفط ولو ليوم واحد. التقسيم سيتحول إلى واقع، لأن السودان فشل في دمج أبناء الجنوب وإشراكهم في السلطة، وإنها لمفارقة أن يكون الموقع على التسليم هو ذاته الذي برر شرعية انقلابه بمعارضته.

لقد فشل الإسلاميون خلال ثلاثة عقود في تطبيق الشريعة الإسلامية، واليوم يتوعدون بتطبيقها حتى لم نعد نعرف ما هي هذه الشريعة التي يبحثون عنها!