محمد العوضي

في ليلةٍ واحدةٍ وقعت بين يديّ مقالتان، من مصدرين مختلفين وكلتاهما تتفقان على التحذير من مشايخ النفاق والنكير عليهم وبيان مدى الجرم الذي يمارسونه في حق الإنسان والدين وأنفسهم.
المقالة الأولى للأديب والفقيه والمؤرخ الراحل علي الطنطاوي بعنوان laquo;مات شيخ الأزهر!raquo; نشرها 1954 وطبعت 2008 في دار المنار ضمن كتاب laquo;فصول من الدعوة والإصلاحraquo; وهو عبارة عن مقالات لم تر النور للطنطاوي ضمن كتاباته الموزعة في جرائد ومجلات قديمة وحديثة، جمعها ورتبها حفيده الناشط مجاهد مأمون ديرانية، ولإتمام الفائدة للمهتمين بأدب علي الطنطاوي فإن حفيده مجاهد أصدر أربعة مجلدات أحدها ما ذكرنا ومعه كتاب فصول في الثقافة والادب، وكتاب نور وهداية وأخيراً laquo;البواكيرraquo; الذي جمع فيه مقالات الطنطاوي الثورية الصريحة أمام الاستعمار الفرنسي فالمقالة الأولى كتبها في العشرين من عمره والأخيرة في السادسة والعشرين، تجربة فريدة تستحق منا التأمل... كأني ابتعدت من استرسالي مع كتب الشيخ الطنطاوي عن مشايخ النفاق، بماذا بدأ علي الطنطاوي مقاله؟ هاكم شجاعته في زمن الطغيان السياسي العربي في أشرس مظاهره.
قال: laquo;إن مات شيخ الأزهر الشيخ عبدالرحمن تاج فليس أول شيخ يموت، ولقد مضى من قبله أئمة فُحول كانوا مصابيح الهدى وكانوا بحار العلم، وكانوا في ثباتهم على الحق جبالاً لا تزول حتى تزول عن مطارحها الجبال... ولكنه أول شيخ للأزهر يموت ونفسه laquo;حيَّةraquo; تسعى!
إن من قبله مات ودُفن، وهذا عاش ولُعن، فما مات من جسده الفاني، لكن مات قلبه ومات ضميره ومات إيمانه، وباع الآجلة بالعاجلة...raquo;.
يوضح لنا مجاهد ديرانية في تعليقاته النافعة على مقالات جده، بأن الشيخ عبدالرحمن تاج تولى مشيخة الأزهر بقرار من رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر، في بداية سنة 1954 ... وبعد أن ذكر طرفاً من تواطئه مع الظلم والظالمين، أما عن سخط الشيخ علي الطنطاوي على شيخ الأزهر القديم، فكان بسبب فتواه ضد الاخوان ووصفه لهم بأنهم laquo;خوارج لا تُقَبل منهم توبة ولا شفاعةraquo;!
كان بوسع شيخ الأزهر أن يغرقهم بالاتهامات لكن أن يغلق عليهم باب التوبة ويحرمهم من الشفاعة، فهذه والله سابقة خطيرة في مثل هذا المنصب، انه حكم عليهم بما يقرب من تكفيرهم ان لم يكن حكم بتكفيرهم كما صرح علي الطنطاوي... ثم ختم مقالته كاشفاً هوية المفتي التكفيري المتزلف الذي حاز شهادة الدكتوراه في الفلسفة وتاريخ الاديان من جامعة السوربون في باريس (1943). فقال: laquo;فما لشيخ الأزهر هذا وأمور الدين؟ أين هو من الدين لما يتحدث الى الصحف عن باريس وليالي باريس ويحن إليها كما يحن المؤمن إلى زمزم والحطيم، ويترحم على لياليها ويدعوها laquo;الجنةraquo;؟ هذه أحاديثه في المجلات، وهذه صورته وسيكارته في يده، وفمه مفتوح وأنظاره ضائعة في الماضي، ماضيه في باريس، جنته التي خرج منها آسفاً عليها متشوقاً إليها! هذا هو - أيها المسلمون - شيخ الإسلام في هذا العصر: كعبته باريس، وتشوقه إلى ملاهيها، وعلمه سلّم للدنيا ومطيّة للوصول إلى رضا الحاكمين. هذا الذي أصدر الحكم بتكفير الاخوان المسلمين! إلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا باللهraquo;.
أقول: مثل هذا الشيخ الجاهز بل المبادر لظلم خصومه المدجن لصالح الأنظمة القمعية، هو المطلوب قديماً وحديثاً ونحن نفرق بين دعاة وفقهاء ومفكرين لهم رسالة أو مشروع في التربية أو الاصلاح الاجتماعي والسياسي يتواصلون مع النظام السياسي بل ويصلون الى قائد الدولة للتحاور والتشاور والتناصح وبين مشايخ النفاق الذين يصلح أن يكونوا مدراء في أمن الدولة، فكيف إذا كان الشيخ ليس, له - معه, الدين إلا اسمه ورسمه ويعيش حياته فارغاً من أي تدين حقيقي...
هذا شيخ ليبرالي على كيف كيفك!! والحمد لله فإننا أُمة تجعل المشايخ والفقهاء والمفكرين والدعاة تحت حكم الشرع لا العكس فلا قداسة لدينا لإمام أو سيد أو مفتٍ، ولكن نكن الاحترام العميق لكل صاحب علم وتنزع الكرامة عن كل من أزرى بنفسه كهذا الشيخ التكفيري الباريسي الهوى...
والأمة محصنة ضد مشايخ النفاق، لأن التميز سهل بين الصادق والمنافق... وفي ذات الليلة التي قرأت فيها ما قاله علي الطنطاوي laquo;مات شيخ الأزهرraquo; قرأت بياناً للشيخ الداعية اللبناني حسن قاطرجي بعنوان: laquo;أيها العلماء احذروا النفاقraquo; وصدره بحديث النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام، laquo;أكثر منافقي أمتي قراؤهاraquo; أي المنتسبون إلى العلم بالدين والشريعة ويتقربون الى ذوي السلطان والجاه بما يريدونه بتلاعبهم بالدين... والشريعة... فيا مشايخ النفاق في كل زمان ومكان كفوا عن البشرية جشاءكم الفقهي!!