عبدالحميد الأنصاري

أصدر الشيخ عبدالرحمن البراك- 77 عاماً- وهو من كبار علماء الدين في السعودية، فتوى جديدة على موقعه الإلكتروني، الأحد 21\2، طالب فيها بقتل كل من يبيح الاختلاط في مجالات العمل والتعليم، وقال: إن من يسمح بالاختلاط 'مرتد كافر يجب قتله'، ووصف من يسمح لأخته أو زوجته بالعمل أو بالدراسة مع الرجال بالشخص 'الديوث'، أي لا يملك الغيرة على عرضه، وبحسب نص الفتوى: 'من استحل الاختلاط فهو مستحل للمحرمات، ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصبح مرتداً، فيعرف وتقام الحجة عليه فإن رجع وإلا وجب قتله'.

الشيخ البراك عالم معتبر، له مكانته في الأوساط الشرعية وله أتباع ومريدون كثر، تخرج من كلية الشريعة بجامعة الإمام عام 1378هـ، وتميز بأن له العديد من الفتاوى المثيرة للجدل، أصدر في مارس 2008 فتوى بتكفير كاتبين سعوديين بسبب ما رآه من آراء تكفيرية وردت في مقاليهما بصحيفة 'الرياض'، وطالب بمحاكمتهما حتى يرجعا عن أقوالهما، وإلا وجب قتلهما كونهما مرتدين فلا يغسَّلان ولا يكفّنان ولا يُصلى عليهما ولا يرثهما المسلمون، وتضامنت معه مجموعة من 20 عالماً سعودياً وأصدروا بياناً مؤيداً.

ونستحضر في هذا السياق فتوى رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، الشيخ صالح اللحيدان الذي طالب بقتل أصحاب الفضائيات كونهم مفسدين في الأرض بعد محاكمتهم قضائياً، ولا ننسى أيضاً فتوى أحد المشايخ بقتل 'ميكي ماوس' التي تصدرت عناوين الصحف والفضائيات لعام 2009.

تأتي الفتوى الجديدة للشيخ هذه المرة في سياق اجتماعي مختلف، فالمجتمع السعودي اليوم يفيض جدلاً حيوياً حول قضايا المرأة كافة، بدءاً بالنقاب مروراً بالاختلاط وانتهاءً بقيادتها للسيارة، وحقها في المناصب، وإسهاماتها في الحياة العامة، هناك اليوم في الساحة عدد من العلماء الذين تجاوزوا المفاهيم السائدة ونادوا بآراء منفتحة تجاه المرأة، كما أن القيادة السياسية تتبنى سياسة متقدمة لتوظيف طاقات المرأة في خطط التنمية، وافتتحت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية 'كاوست' في سبتمبر الماضي، وهي جامعة تسمح بالاختلاط في مجال التعليم.

فالمرأة السعودية اليوم هي بطلة المرحلة الحالية في السعودية، كما يقول حسين شبكشي، ويضيف: 'منحت الدولة الوسام الأعلى لطبيبة سعودية د. خولة الكريع، وأنشأت أكبر جامعة باسم أخت مؤسس البلاد وستشارك المرأة في الانتخابات البلدية، وستعين وزيرة، السعوديون اليوم يفتخرون بأخواتهم وبناتهم بإنجازاتهن العلمية والعملية'. وتأتي فتوى البراك في ظل هذه المتغيرات الاجتماعية والسياسية فتبدو 'شاذة' و'صادمة' ولذلك جوبهت برفض وانتقاد واسعين من قبل الأوساط الثقافية والدينية.

وتساءل الخبير القانوني د. باسم عالم حول إمكان رفع دعوى قضائية على مثل هذه الفتوى، وقال: 'يمكن رفع دعوى احتساب ضد الفتوى لما لها من مآل وما يمكن أن يتم فيها من افتئات على الحاكم'. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن قضية الاختلاط قضية اجتماعية في المقام الأول، والفقهاء يختلفون حولها، هناك المحرم وهناك المجاز بضوابط، أي اختلاط محتشم أو اختلاط نظيف أو مأمون، والمجوزون أيضاً يختلفون فهناك الموسع وهناك المضيق، وهذا الاختلاف مبني على الموازنة بين أوجه المصالح والمفاسد المترتبة على الاختلاط، إذ لا يوجد نص صريح بتحريم التقاء الجنسين تحت سطح واحد لهدف تعليمي أو تنموي أو إصلاحي.

والمنصف يرى أن الإسلام لم يحرم الاختلاط، بل نظمه ووضع له ضوابط تقلل سلبياته وتعزز إيجابياته مثل الحشمة وعدم الخلوة وغض البصر، ولو كان الإسلام يريد منع التقاء الجنسين لجعل للرجال مسجداً وللنساء مسجداً، ولكنه جعل المسجد واحداً للجنسين وفق تنظيم داخلي حكيم، ولو كان ديننا ضد الاختلاط لما جعل مناسك الحج مشتركة بين الجنسين معاً، ولخصص أوقاتاً معينة لطواف وسعي النساء.

وما أجمل ما قاله المفكر الإسلامي الكبير محمد فتحي عثمان عن الاختلاط المأمون: 'هذا الاختلاط هو الذي يألف فيه الرجل رؤية المرأة ويؤمن فيه التقاء الجنسين في إطار من الدين والخلق، فيضيق مجال الانحراف والشذوذ وتتجمع لديهما خبرات وتجارب تعين على إحسان الاختيار للزواج وإحسان المعاشرة بعده، فالاختلاط النظيف أعون على المسارعة إلى تكوين البيوت على أساس سليم يكفل التوافق الزوجي، ويحد من مشكلتي العنوسة والطلاق'. شذوذ فتوى الشيخ يأتي من أنه لم يذهب أحد من الفقهاء الذين حرموا الاختلاط ما ذهب إليه الشيخ في كون المبيح للاختلاط، كافراً مرتداً وواجباً قتله! هل المبيح للاختلاط كالمبيح للزنى مثلاً؟! وكما قال أحد القراء: إذا افترضنا أن ملياراً ومئتي مليون مسلم لا يؤيدون كلام البراك، فماذا سيكون مصيرهم؟! وبطبيعة الحال هناك المؤيدون للفتوى والمدافعون عنها، وهؤلاء صنفان:

1- علماء تقليديون يتوجسون من المتغيرات الاجتماعية في الساحة السعودية ويرون فيها تغريباً للمجتمع وإفساداً للمرأة، وهم يرون أنفسهم حراساً لما يعدونه ثوابت دينية اجتماعية موروثة.

2- قطاعات مجتمعية تتمسك بالتقاليد والأعراف اعتقاداً بأنها تعاليم دينية ثابتة وهؤلاء عادةً شديدو المقاومة للتغيير.

وهذا ما تجسده كثرة التعليقات على الفتوى من قبل القراء على الشبكة الإلكترونية، هناك أكثر من 118 تعليقاً على الفتوى على موقع 'العربية نت' وأكثر من 97 تعليقاً على موقع صحيفة 'الوطن' السعودية، والملاحظ أن 50% من التعليقات مؤيدة للشيخ وتدعو له بعبارات 'جزاك الله خيراً... وبارك الله فيك... وبيّض الله وجهك... وأطال الله في عمرك يا شيخنا الفاضل'، وهناك مدافعون مبررون 'الشيخ أفتى بما يراه صائباً فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر'، و'هو حر وله الحق في التعبير عن رأيه' في المقابل هناك تعليقات تهاجم الفتوى وتقول: 'التكفير ليس رأياً بل عدواناً على الآخرين، الرجل يطالب بقتل الآخرين المخالفين له، وهذا يخرج عن حرية التعبير إلى الاعتداء والإجرام'، و'إن ما قاله البراك فتوى تحريض على القتل، فهو لا يقول رأياً ولا يحاور بل يطالب بقتل أناس مسلمين يصومون ويصلون لمجرد أنهم خالفوا رأيه'.

الفتوى خطيرة تهدد حياة المجيزين للاختلاط، فمن يضمن ألا يعمد أحد المتحمسين إلى إلحاق الأذى بهم؟ لذا على الجهات الرسمية، خصوصاً الهيئات الشرعية المسارعة إلى:

1- تقنين الفتوى وتوحيدها منعاً للفتنة وحماية لأرواح الأبرياء وضماناً لاستقرار المجتمع، فقد انتشرت الفتاوى الفضائية والإلكترونية وأصبحت مهددة لحياة الناس، تزرع الكراهية وتؤجج الطائفية وتثير الانقسامات بين أبناء المجتمع الواحد وتسيء إلى صورة مجتمعاتنا، بل تشوه صورة الإسلام أمام العالم، إن هذه الفوضى في إطلاق الفتاوى يجب أن تتصدى لها المجامع الفقهية، صحيح أنها لا تستطيع توحيد الفتاوى ولا منع الفتاوى الفردية عبر الساحة الإسلامية، ولكن من واجباتها المسارعة إلى الرد والنقض لتلك الفتاوى المثيرة للفتنة عبر فتوى جماعية تؤمن حياة الآخرين المستهدفين بالضرر والإساءة.

2- المسارعة إلى إصدار تشريع يجرّم فتاوى التحريض على التكفير أو القتل بحيث يكون من حق الناس رفع دعوى قضائية على المفتي إذا تضمنت فتواه ما يهدد حياتهم، إذ لا يكفي معاقبة المنفذ وترك المحرّض، والسعودية أعلنت أخيراً في خطوة مهمة على درب محاربة الإرهاب بتجريم المحرّض، فقد حكمت محكمة بسجن متهم بالتحريض على الإرهاب 7 سنوات، وكانت العقوبة قبل ذلك محصورة في المنفذين، في حين أن المنفذ ضحية للمحرِّض، لقد ذهب عشرات الآلاف من الشباب للجهاد في أفغانستان والعراق والصومال وقتلوا هناك، هؤلاء كانوا ضحايا للمحرّضين الذين بقوا ينعمون بمتاع الدنيا، لو كان عندنا تشريع يعاقب المحرِّض لحافظنا على شبابنا من الهلاك.