حسن حنفي


شيخ الأزهر الجديد صديق قديم، أستاذ للفلسفة، وعضو بالجمعية الفلسفية المصرية. تعرفت عليه منذ أكثر من عشرين عاماً أستاذاً في كلية أصول الدين عندما كان د. محمود حمدي زقزوق عميداً لها لتدبير شؤون الجمعية. فقد بدأت الفلسفة تزحف على المؤسسات الدينية، وزارة الأوقاف أولا، ومشيخة الأزهر ثانياً. والمفتي الحالي خريج الجامعة الإسلامية الدولية بكوالالمبور بماليزيا بما لها من دور في التجديد والإصلاح بفضل دعاتها الأوائل الذين كان لهم ضلع في الفلسفة، فلسفة الدين والأخلاق. وكنا نشارك سويّاً في عدة مؤتمرات دولية خاصة مؤتمرات quot;سانت إيجيديوquot; في إيطاليا وفرنسا وبولندا، والعام القادم في إسبانيا بصفته رئيساً لجامعة الأزهر، وقد كان دائماً يتحلى بشجاعة فائقة، وصراحة تامة، واستقلال فكري مشهود. يحاور المسيحيين ويعتب عليهم التنصير في البلاد الإسلامية. وكثيراً ما رفض الجلوس على مائدة واحدة مع اليهود حتى ولو كانوا من الداعين إلى السلام لاحتلالهم الأرض، واستمرارهم في الاستيطان، ومحاولتهم الدائبة لتهويد القدس وغيرها من الآثار الإسلامية في فلسطين المحتلة.

وكنا نتفق ونختلف، حتى لو كان الاختلاف أكثر من الاتفاق، فهو اختلاف في الوسائل واتفاق في الغايات. وهو الخلاف بين المتكلم والفيلسوف، بين من يعرف الحقيقة ومن يبحث عنها، بين الجدل والبرهان، بين الغزالي وابن رشد. أخبرني أنه نقد كتابي الذي صدر منذ ثلاثين عاماً quot;التراث والتجديدquot; وهو أستاذ في قطر. ولم أقرأ نقده بعد. وكنت أمازحه دائماً بأن عليه أن يعطيني شيئا من هدايته، وعليّ أن أعطيه شيئاً من quot;ضلاليquot; حتى نتكامل! فالإسلام يقر بالتعددية الفكرية. وقد أضرته كثيراً أحادية النظرة وفهم البعض لحديث quot;الفرقة الناجيةquot; الذي يشكك في صحته ابن حزم والعز بن عبدالسلام.

والشيخ هادئ الطبع، منخفض الصوت. أقرب إلى الاستماع منه إلى الحديث، وإلى الصمت منه إلى الكلام. وفي داخله قلق كما هو الحال في كل مفكر معاصر بين التقليد والتجديد، بين الأصالة والمعاصرة، بين أصول الإسلام وتحديات العصر. عندما يكون أستاذاً جامعيّاً ومفكراً حرّاً يكون أقرب إلى التجديد والمعاصرة والتحديث. وعندما يتحمل المسؤولية في المؤسسة الدينية التي هي جزء من الدولة يكون أقرب إلى التقليد والمحافظة والتشدد. وإذا حاول أن يكون مجدداً وهو في موقع المسؤولية يكون مصيره مثل مصير محمد عبده وكل المصلحين من داخل المؤسسة الدينية ودافع محمد عبده عن نفسه قائلا:

ولكنه دين أردت صلاحه...

أحاذر أن تقضي عليه العمائم

له كل احترام وتقدير، لشخصه وعلمه وجهوده ونضاله. يدافع موضوعيّاً عن الإسلام اعتماداً على العقل والواقع وهما ركيزتا الإسلام. ينال احترام المؤسسة الدينية واحترام الداخل قبل الخارج كما هو الحال مع وزير الأوقاف. فقد أصبحنا أقرب إلى نموذج الشيخ الرئيس أو الإمام الفيلسوف الذي نادى به من قبل ابن سينا والفارابي. وبالتالي تتغير صورة المؤسسة الدينية التقليدية المنضوية تحت جناح الدولة، والمنعزلة عن مصالح الناس. فقد استطاعت أن تقدم أحياناً خطاباً إسلاميّاً عقلانياً واقعياً مستقلا عن الخطاب السياسي الرسمي ومعبراً عن مصالح الأمة.

وقد شجع على كتابة هذا النداء، من صديق إلى صديق، ما أعلنه منذ توليه المنصب الجديد من تقديم استقالته من quot;الحزب الوطنيquot; الحاكم حفاظاً على استقلال مشيخة الأزهر عن سياسات الدولة، ونيته في تغيير مناهج التعليم في المعاهد الأزهرية من أجل تكوين جيل جديد من خريجي الأزهر أكثر انفتاحاً على قضايا العصر والدخول في تحدياته، بالعلم باللغات الأجنبية والثقافات المعاصرة، والبداية بالبدايات، التعليم. كما أعلن عن قبول الطلبة الإيرانيين، عودة إلى الجمع بين طوائف الأمة كما كان الحال في العهد القديم تأليفاً للقلوب وحماية للأمة من الطائفية والمذهبية والعرقية وكل عناصر التجزئة ومخططات التفتيت في عصر تتجمع فيه الطوائف اليهودية شرقية وغربية، ومذاهبها المحافظة والإصلاحية من أجل زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي، واستمراراً لجهود التقريب التي بدأها الشيخ شلتوت والإمام القمي والمستمرة حتى الآن في quot;مؤسسة التقريبquot; في إيران بإشراف الشيخ محمد علي تسخيري. والبقية تأتي لتنفيذ برنامج إصلاحي طالما تاق إليه مشايخ الأزهر الإصلاحيون لتجاوز الوعظ والإرشاد التقليدي إلى الحوار العقلاني، وتكوين أئمة وخطباء في المساجد قادرين على هذا الحوار بعيداً عن تكفير الخصوم في الداخل والخارج.

ولاشك أن القدس في الأعناق، وفلسطين في القلوب. ولا نريد أن نكون هذا الجيل الذي رأى ضياع نصف فلسطين في عام 1948، والنصف الآخر في 1967، وتهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى، وإحلال quot;هيكل سليمانquot; محله، ولدينا كل هؤلاء الأئمة والمشايخ. ويحدث أمامنا الحرب على العراق وتفتيته، وعلى أفغانستان واحتلالها. وبأيدينا تقع حرب أهلية في الصومال وقتل فيها الآلاف باسم quot;الجهادquot; والإسلام، وفي السودان التي يحصد فيها الآلاف في الجنوب ودارفور. وقد آخى الإسلام بين الجميع. وتقع صراعات باسم المسلمين والمسيحيين في نيجيريا وبين المسلمين أنفسهم باسم quot;بوكوحرامquot;. ويحدث توتر بين المسلمين والأقباط في مصر تشهد عليه حادثة نجع حمادي. وتقع حرب أهلية في اليمن وغيره. أليس من واجب علماء المسلمين حقن الدماء، وإطفاء الحريق بكل ما لديهم من وسائل في الحوار، كما آخى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بين الأوس والخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، وكما عاهد في ميثاق المدينة وصلح الحديبية، وكما منع الحرب بين القبائل لنزاعها على شرف إعادة الحجر الأسود إلى مكانه في جدار الكعبة بعد أن فرش الرسول، صلى الله عليه وسلم، عمامته وأمسكت كل قبيلة بطرف.

آن الأوان أن يتوجه أئمة المسلمين وعلماؤهم إلى القضايا الكبرى لأوطانهم، إلى ما تعم به البلوى وهو الأصعب، وليس إلى المظاهر والأشكال وهو الأسهل. آن الأوان أن يواجهوا قضايا التحرر من الاحتلال والعدوان، وقضايا حرية المواطن من القهر والخوف، وقضايا العدالة الاجتماعية وتقريب الفوارق بين الطبقات دفاعاً عن الطبقات الفقيرة، وحماية لوحدة الأمة ضد مخططات التجزئة والتفتيت الطائفي والعرقي، والمساهمة في عمليات التنمية من أجل الاعتماد على الذات، لأن الأمة لديها الموارد والسواعد والأراضي والأسواق، والدفاع عن هويتها ضد مظاهر التغريب والانبهار بالآخر، وحشد جماهيرها لنيل حقوقها وإلا لما كانت تستحق صفتها باعتبارها quot;خير أمة أخرجت للناسquot;. وليس من الصعب الحوار مع الداخل من أجل إصلاح الأمة ونبذ العنف، وتأكيد الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق. فالإسلام بوتقة الجميع، الأستاذ والطالب، المعلم والمتعلم.

والعالم الجليل قادر على استمرار الحوار مع الخارج بما لديه من ثقافة واسعة بالآخر، ولغة حديثة للتخاطب معه، وقدرة على الإقناع، وأدب في الحوار. الغرب جزء منا منذ أيام اليونان والرومان والغرب الحديث. ونحن جزء منه منذ عصر الترجمة من العربية إلى اللاتينية والآن بانتشار الإسلام في الغرب عبر المهاجرين أو المسلمين الأوروبيين. فالحوار مع الآخر هو حوار مع النفس. وهو قادر على كشف المعيار المزدوج الذي يقع فيه الآخر بالنسبة للبون الشاسع بين النظر والعمل، حقوق الإنسان له وليس لغيره، لإسرائيل وليس للفلسطينيين، والتقدم له والتأخر لغيره، والسيادة له والتبعية للآخرين.

هذا النداء ليس إدخالا للسياسة في الدين. فالإسلام، في رأيي، لا يعرف التفرقة بين شؤون الدنيا وأمور الآخرة. ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. والكل راع والكل مسؤول عن رعيته. والحساب على قدر المسؤولية، والمسؤولية على قدر التبعة، والتبعة على قدر الوعي بها. الكل يتطلع لمصر المستقبل القادرة على الخروج من أزمتها الراهنة كما استطاعت باستمرار في الأزمات السابقة على مر التاريخ. والعلماء قادرون على وضع نهاية للمصاعب حتى يرى الناس جادة الطريق المستقيم المؤدي نحو المستقبل المشرق.

أرجو ألا يكون هذا للأستاذ الفيلسوف والشيخ الجليل من باب تكليف ما لا يطاق.