خليل علي حيدر


هل من المفيد حقاً، الاستعانة بالنظريات والاتجاهات والحقائق العلمية والمكتشفات العصرية على اختلافها، في تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما يفعل البعض، أم أن مثل هذا التوجه محفوف بالمخاطر الفكرية، كما يحذر آخرون؟
فقد انتشر هذا المنحى في التفسير، مع الثورة الإعلامية على نطاق واسع، واجتذب إلى سوح الدعوة والتفسير الكثير من رجال الدين وأساتذة العلوم البحتة والتطبيقية والأطباء.

ونحن جميعاً ندرك أن الحاجة في صفوف الجمهور لربط الدين بتوجهات العصر شديدة، وبخاصة أن مثل هذا quot;التفسير العلميquot;، والذي يكاد أحياناً أن يحيل القرآن الكريم وبعض كتب الحديث والتراث، مرجعاً في علم الأحياء والجيولوجيا والفلك والفيزياء، يسد فراغاً ملحوظاً في نفوس المسلمين ويشبع حاجة ملحة لديهم، بسبب تقصيرهم في ميادين البحث والاختراع وتطوير الحياة الحديثة، فيجد الكثيرون في مثل هذه التفسيرات والتأويلات العوض والعزاء.

ولكن ما من باحث جاد ممحِّص، إلا ويكتشف أن مثل هذا التوجه لا يزال مرتجلاً. وكان أولى بالمفسرين المعاصرين والمفكرين الدينيين لو أنهم سلموا بانفصال مجالات العلوم البحتة والتطبيقية والفرضيات، عن مجال النصوص الدينية والإيمانيات والغيبيات، وجعلوا هذه الأخيرة حقاً من حقوق كل مسلم، يفهم من الإشارات العلمية وغوامض الإشارات فيها ما يسعه فهمه، دون تفسير بعض الآيات على ضوء بعض التطورات العلمية، ثم التراجع عن ذلك عندما يطرأ تحول جديد!

ولو عدنا إلى التراث العربي-الإسلامي لوجدنا أن العديد من الفقهاء كانوا كذلك من الأعلام في مجالات أخرى بعيدة عن الفقه، فقد كان quot;ابن خلدونquot; مثلاً من مدرسي الفقه المالكي إلى جانب كونه من كبار المؤرخين وعلماء الاجتماع. وكان quot;ابن حزم الأندلسيquot; فقيهاً ومحدثاً ومؤرخاً وأديباً ومؤلفاً في علم الكلام والعقائد والفلسفة. وكان quot;ابن رشدquot; فيلسوفاً وطبيباً وفقيهاً متبحراً في العلوم الشرعية والقضاء، وكان يلقب بقاضي قرطبة، إلى جانب شرحه لكتب أرسطو ورده على الإمام الغزالي الذي ألف كتاب quot;تهافت الفلاسفةquot;، فرد عليه ابن رشد في quot;تهافت التهافتquot;. وفي مجال الطب، وضع ابن رشد كتاب quot;الكياتquot;، وكان له شأن في العصور الوسطى.

ونعود إلى محاولات الشيخ الشعراوي، رحمه الله، في إعادة تفسير القرآن الكريم وفق التطورات العلمية، كمعرفة جنس الجنين قبل أن يولد. فالآية 34 من سورة لقمان تقول: quot;ويعلم ما في الأرحامquot;. وقد سُئل الشعراوي، كما في كتاب quot;الفتاوى الكبرىquot;، إن العلم قد استطاع أن يصل إلى نوع الجنين، هل هو ذكر أم أنثى؟ ويزيدون على ذلك أن العلم استطاع أن يخلق ما يطلقون عليه طفلاً صناعياً، وهذا يتناقض مع أحد المغيبات الخمسة، فما رأي فضيلتكم؟

وتقول الآية 34: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير).

ويعتبر المفسرون هذه quot;مفاتيح الغيبquot;، ويقول الطبري في تفسيره، quot;ويعلم ما في الأرحام، فلا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكرٌ أو أنثى، أحمر أو أسود، أو ما هو؟ وينزل الغيث، فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلاً أو نهاراً ينزلquot;.

وجاء في تفسير الجلالين، quot;ويعلم ما في الأرحام أذكر أم أنثىquot;. وقد سلّمت الأجيال المتعاقبة من المسلمين، بعدم القدرة على معرفة جنس الجنين، كما أن الأطباء أنفسهم في المجلات المختلفة يجيبون على السائلين من النساء بذلك. وقد قال quot;طبيب الأسرةquot;، في زاويته بمجلة quot;العربيquot;، عدد أكتوبر 1959، لقارئة مستفسرة: quot;لا يا سيدتي.. لا توجد إلى اليوم طريقة مؤكدة يستطيع بها الطبيب أن يعرف نوع طفلك قبل أن يولد، ذكر هو أم أنثى.. وإلى اليوم لم يهتد أحد إلى شيء حاسمquot;. وفي الوقت نفسه كان العلم غارقاً في بحار البيولوجيا وعلم الأجنة يبحث في أدق الأسرار، كما كان بعض المفكرين يتنبأ بمستقبل عجيب للبشر. فالكاتب البريطاني الشهير quot;ألْدوس هكسيquot; أصدر عام 1932 كتاباً أحدث ضجة كبرى بعنوان quot;عالم جديد شجاعquot;، وكان ضمن ما قاله آنذاك، قبيل الحرب العالمية الثانية، إن عالم المستقبل لن يعرف كلمة الأم، Mother quot;لأن الناس فيه أبناء التلقيح في القوارير والبواتقquot;..! ثم حدثت في السنوات الأخيرة quot;فتوحات علميةquot; متلاحقة في علم الأجنة والتناسل والحمل والولادة وقضايا الجينات والاستنساخ وتأجير الأرحام وغير ذلك، فبتنا لا نعرف ما الحدود التي ستتوقف دونها هذه الفتوحات!

وكان للشعراوي رؤية مختلفة عن كل التفاسير السابقة، وفهم جديد مخالف لكل الفهم السائد لمعنى هذه الآية منذ ظهرت كتب التفسير، حيث يقول: quot;نحن نقول لمن يدعي هذا الكلام، من الذي قال لك إن كلمة quot;ماquot;، معناها ذكر أم أنثى؟ إن كلمة quot;ماquot; معناها شقي أم سعيد، طويل أم قصير، أبيض أم أسود، عمره، رزقه، أجله، اسمه، كل شيء عن المخلوق الذي سيأتي إلى الدنيا. إذن... فعلم الله سبحانه وتعالى في كلمة quot;ماquot; علم مطلق، فكيف تأتي أنت وتحدده بذكر أم أنثى.. ثم إن حقيقة الذكر والأنثى ليست حقيقة علمية، ذلك أن الزوجة إما أن تلد ذكراً أو أنثى.. ولو كانت أجناس البشر متعددة غير ذكر أو أنثى، لكان الاستناد إلى العلم هنا فيه شيء من الدقة. إن ما في الأرحام يشمل أكثر كثيراً من علم البشر من الآن، وحتى يوم الدينquot;.

وهذه محاولة جريئة بلاشك في التفسير، ولكن هل يمكن المضي فيها، quot;من الآن وحتى يوم الدينquot;، كما يقول الشعراوي؟ فهناك مستجدات من قبيل التحكم بجنس الجنين، وربما يتقدم علم الجينات فيزداد تسلط الوالدين والأطباء على شخصية الجنين وطوله ولونه وعمره ومزاجه ومقاومته للأمراض وقدراته العقلية وقواه العضلية وتوجهاته... إلى ما لا نهاية!

فكيف سيساير quot;التفسير العلميquot; كل هذه التطورات المحتملة، والتي تطل علينا برأسها اليوم؟

ويشير الشعراوي عند تطرقه لمراحل خلق الجنين إلى الحديث الوارد في quot;صحيح البخاريquot;: عن عبدالله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه، وأَجَله، وعمله، وشقيٌ أو سعيد، فوالذي لا إله غيره: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلهاquot;. (أخرجه البخاري ومسلم).