أحمد شهاب

تمتاز مجتمعات الخليج بتجانسها الثقافي وتشابه مناخاتها الاجتماعية والسياسية إلى حد كبير، وبطابعها العربي والإسلامي، والقبلي إلى حد ما، وهذا ما أدى إلى ما نلاحظه من رسوخ قواعد في طريقة الحياة، ونمط صارم من العلاقات الأبوية، والتدين العرفي الذي يمكن من خلاله وصف المجتمعات الخليجية بصورة عامة بكونها مجتمعات محافظة. وإلى حد بعيد تميل مجتمعات الخليج إلى الحماسة في التعبير عن القناعات والتوجهات الدينية والفكرية، وهو ما انعكس في صور التعبير عن المتبنيات الايديولوجية والفكرية وانعكاساته على الساحة السياسية، فإن الانحياز إلى فكرة ما يصل في دول الخليج إلى مديات واسعة من التعصب والتشدد لفكرة، أو التعصب والتشدد ضد أُخرى.

لا فرق في درجة هذا الانحياز المفرط في تشدده بين فريق وآخر، إذ نجد الأصولية في الخليج تتمظهر حينا في جبّة شيخ، ومرة تحت قبعة أفندي، ويتجلى أمامنا الانغلاق، مرة بصورة المتدين ربيب المساجد والهيئات الدينية المنتشرة في المجتمع، وأخرى بصورة العلماني خريج الجامعات الحديثة والملتقيات الثقافية، والأمر يتعدى ذلك إلى انتقال أحداث العنف والجنوح الفردية إلى ظاهرة اجتماعية عامة، فتصاعد الجريمة المسلّحة وانتشار جرائم القتل والسرقة والخطف والتعدي على ممتلكات الآخرين، أو تخريب الممتلكات العمومية، إضافة الى حالات الانفلات الأمني، كلها تشي بوضع غير طبيعي تعيشه هذه المجتمعات.

هذا راجع من وجهة نظري إلى طبيعة البيئة الخليجية، التي يختلط فيها الالتزام الديني والثقافة المحافظة بالنزوع نحو الحماسة والاستعراض. فالفرد المتدين لا يكتفي بالتسليم طوعا إلى الله، ويبني علاقة إيمانية بينه وبين ربه، ويشيد جسور المحبة مع من يشتركون معه في الهم الديني والفكري والإنساني، وإنما يسعى إلى التصادم مع الآخرين، وتضعيف مواقعهم، والتشهير بهم، فهو يميل إلى اعتبار تدينه مشروعا قائما للحرب المقدسة على كل الذين يختلفون معه في الرأي والموقف.

وعلى الرغم من شعور العديد من الجهات الرسمية والأهلية بخطورة هذه الظاهرة وأبعادها على الحياة الاجتماعية، واكتواء الجميع بلهيبها الحارق، إلا أنهم لم يبذلوا أي جهد في اتجاه تسليط الضوء عليها، أو اقتراح الحلول والمعالجات الملائمة لها. ولايزال المعنيون من جهات رسمية وأهلية يصرون على التعاطي مع الأمور بنظرية laquo;غض الطرفraquo; وlaquo;السكوت من ذهبraquo;، والتجاهل التام لكل ما يرتبط بالمشكلة ومدياتها الواسعة، بخاصة تلك التي ترتبط بتحول العنف الفكري إلى عنف سلوكي، والفكرة الساخطة إلى طلق ناري.

مثل كل القضايا والظواهر الطارئة، ظلت مسألة انسياق عدد ملحوظ من أبناء الخليج في دائرة العنف والأصولية مهملة من حيث الدراسة والتأمل النظري، ولا يكاد يحصل الباحث في المكتبات الخليجية على أي دراسات مهمة قُدمت في هذا الشأن، واكتفت دول الخليج مثل غيرها من الدول العربية، بالحلول الأمنية التي لم تقدم جديدا في مضمار الحل، بل أسهمت في تصعيد الأزمة، وتأزيم النفوس المتأزمة أصلا، فالعنف الأكثر خطورة، ليس ما نراه في هيئة أعمال عنف وتخريب تندلع هنا أو هناك، أو في تلك الجرائم التي يتورط بها بعض أبناء الخليج، وإنما في كمية العنف الذي تمتلأ به العقول التي في الرؤوس. وهذا العنف قد يُشخصه الناظر بكونه ناتجا عن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المرتبكة في دول الخليج، وهو بالفعل كذلك، لكن هذه ليست كل حقيقة أعمال العنف والتطرف، بل ثمة جزء غائب لا يقل أهمية في إرساء هذا الخلل يكمن في الفكرة التي تدور في رؤوس المواطنين، فالعنف عبارة عن فكرة متطرفة ترتكز إلى شعور خادع بالحقانية وامتلاك الحقيقة كاملة، وانتفائها عن الآخر بصفة تامة، فهي ثقافة تنتقص من الرأي المخالف، وتبني أسوار العزلة بينها وبين الآخر، بل نجد هذه العزلة تمتد حتى إلى ضمن الدائرة الفكرية الواحدة، وضمن المذهب الواحد.

إن مواجهة هذه الثقافة الآحادية يتطلب بذل خطوة إلى الأمام في سبيل توفير بيئة صحية للخروج من الشعور بملكية الحقيقة المطلقة، وتعزيز ثقافة احترام الآخرين، بغض النظر عن متبايناتهم الفكرية والعقدية، والانطلاق في التعامل معهم وفق مقولة الإمام علي بن أبي طالب: laquo;الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلقraquo;، وهي ثقافة تتناقض وتتصادم مع الثقافة الدعوية والخطابات المنبرية التي تنتشر في المجتمع الآن، والتي تحاول أن تبني جدارا مذهبيا عازلا باسم الدين، وتحت ستار الدفاع عن الإسلام بين الفرق المختلفة.

ومن دون شك إن أول محطة لإعادة تأسيس ثقافة وطنية تعايشية تعتمد إلى احترام الآخرين، هو إعادة النظر في التعليم النظامي. فالدولة معنية بزرع مفاهيم إيجابية موحّدة، وتبني معان جديدة لاستبدال الأفكار المذهبية البغيضة والمنتشرة في المجتمع انتشار النار في الهشيم، بثقافة إسلامية حديثة، تستنطق روح النص، وتستجلي قيم الدين، وتزداد هذه الحاجة مع زيادة وسائل الإعلام والفضائيات المذهبية، التي تراهن على تسويق برامجها، اتكاء على عنصر الإثارة وبرامج الجدل المذهبي وتدويل الشتائم المذهبية.

إذ أن احتواء المناهج الدراسية على أطروحات تطعن في الآخرين، وتسخر من عقائدهم ومتبنياتهم الفكرية، والإصرار على تزويد الطلاب بثقافة أحادية تُصنف الآخر إلى علماني وليبرالي ورافضي وأشعري ومعتزلي وصوفي، ووصفهم بأهل الشرك والبدع والإلحاد، لا يمكن أن ينتج حالة عيش وانسجام وطنيين، بقدر ما يدفع إلى مزيد من حالات الاحتقان وانتشار ثقافة الكراهية، إضافة إلى أنه يزود الماكينة المذهبية الجوالة بمادة جديدة تُبرر من خلالها بثّ نفاياتها التمزيقية باسم الدين.