فهمي هويدي

الخبر المثير أن تحولات استراتيجية بالغة الأهمية تحدث الآن في الشرق الأوسط، أما الخبر المؤسف فإن مصر ليست طرفاً فيها، بعدما انسحبت من الحلبة واكتفت بالجلوس في مقاعد المتفرجين .

-1-

صحيح أن الدول العظمى التقليدية مازالت تتحكم في الكثير من الخيوط التي تحرك الأحداث في العالم، لكن من الصحيح أيضاً أن الدول الناشئة أو النامية أصبح لها حضورها الذي لا ينكر في تقرير مصير قضايا الحرب والسلم في العالم، بل صار اتخاذ قرارات في هذه الأمور مستحيلاً في غيبة تلك الدول الأخيرة . هذه هي الفكرة الأساسية في مقالة كتبها وزير خارجية البرازيل سيلسو اموريم ldquo;في 15 يونيو/ حزيران الحاليrdquo; على موقع دولي باسم ldquo;بروجكت سينديكيتrdquo; . وهو يشرح فكرته ذكر أن الأزمة المالية العالمية أبرزت دور دول العالم النامي الصاعدة التي تتوزع فيما بين أمريكا اللاتينية ldquo;البرازيل والأرجنتين والمكسيكrdquo; وإفريقيا ldquo;جنوب إفريقاrdquo; وآسيا ldquo;الصين والهند وتركياrdquo; . هذه الدول أصبحت لها كلمة الآن في المسائل المالية والبيئية والمناخية ومعايير العلاقات الدولية . وأحدث مثال على ذلك هو مبادرة البرازيل وتركيا للتوصل إلى حل لمشكلة تخصيب اليورانيوم في البرنامج النووي الإيراني، وقد اعتبر ذلك الحل الذي تم التوافق عليه بمثابة ldquo;قلب للوضع القائم رأساً على عقبrdquo; . وعلى رغم أن تلك الخطوة تعد من آيات التعاون بين القوى الجديدة، فإنها تعد أيضاً نموذجاً للتجاذب الحاصل في الشأن السياسي بين تلك القوى والقوى الأخرى التقليدية الممثلة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهي التي فوجئت بارتفاع صوت الجنوب في إعلان طهران، فتجاهلته ومضت في طريق فرض العقوبات على إيران، الأمر الذي يثبت حرص أصحاب الامتيازات على استمرار احتكار حسم القضايا الدولية ومقاومة رياح التغيير الحاصلة في عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة .

-2-

التغير الحاصل في الساحة الدولية له صداه على الصعيد الإقليمي . فظروف الأزمة التي أبرزت دور دول العالم الثالث في الساحة الدولية، شبيهة بتلك التي أفرزت المتغيرات الجذرية التي تحدث الآن على الصعيد الإقليمي، ذلك أنه إذا كان العالم الغربي يعاني الأزمة الاقتصادية، فإن العالم العربي يواجه أزمة الفراغ الذي نشأ عن غياب مصر، وخروجها من المشهد العربي منذ تصالحها مع ldquo;إسرائيلrdquo; في عام 1979 . كأن ذلك التصالح بمثابة تثبيت للحضور ldquo;الإسرائيليrdquo; وإعلان عن الخروج المصري . وحين حدث ذلك فإن العالم العربي دخل إلى مرحلة التيه، إذ أصبح بمثابة جسم بلا رأس . وفي الوقت الذي خلا فيه موقع القيادة في العالم العربي، كانت تركيا تنمو وتتقدم وتتأهل للعب دور رئيسي في منطقة الشرق الأوسط، متجاوزة بذلك الدور الإيراني على أهميته، بعدما أثبتت تجربة ثلاثين عاماً منذ نجاح الثورة الإسلامية، أن ثمة محاذير سياسية ومذهبية حالت دون الترحيب به في العالم العربي، لذلك ظل الدور الإيراني حاضراً في بعض الساحات وغائباً عن ساحات أخرى، على العكس من ذلك كان الدور التركي الذي كان الطريق مفتوحاً أمامه لكي يتقدم في كل الساحات .

ثمة عوامل ثلاثة أسهمت في تحقيق الصعود التركي، تتجاوز خصوصية الموقع الجغرافي والخلفية التاريخية هي:

النموذج الديمقراطي الذي وفر للحالة التركية جاذبية وقوة دفع معتبرة، إضافة إلى النهوض الاقتصادي المشهود الذي حول تركيا إلى قوة اقتصادية معتبرة في محيطها، أوصل الناتج المحلي إلى تريليون دولار، وجعل من تركيا الدولة رقم 17 في قائمة القوى الاقتصادية العالمية (يخططون لكي تصبح القوة العاشرة بحلول عام 2020) . أما في أوروبا فهي تعد الدولة السادسة في ترتيب القوى الاقتصادية . ومن نتائج هذا الوضع أن تضاعفت صادرات تركيا إلى العالم العربي أكثر من خمس مرات في الفترة من عام 2003 إلى الآن (من 5 مليارات أصبحت 27 ملياراً) كما أن قيمة صادراتها إلى العالم الإسلامي ارتفعت في الفترة ذاتها من 11 إلى 60 مليار دولار .

المساندة الشعبية وفرت لحزب العدالة والتنمية الأغلبية في البرلمان، ومكنت الحكومة لأول مرة من أن تتمتع بحرية نسبية في التعامل مع الحلفاء التقليديين، وفي المقدمة منهم الولايات المتحدة وrdquo;إسرائيلrdquo;، بمعنى أن الاستناد إلى التأييد الشعبي حرر القرار السياسي الذي لم يعد مرتهناً للإرادة الخارجية، ومن ثم أتاح للحكومة هامشاً من الحركة، جعلها تختلف وتتفق مع أولئك الحلفاء، وهذا الاستقلال في الإرادة الوطنية هو الذي أحدث تبايناً في مواقف أنقرة وواشنطن إزاء المشروع النووي الإيراني وإزاء حركة حماس (التي رفض أردوغان اعتبارها حركة إرهابية) . وهو ذاته الذي أفرز الفراق بين أنقرة وتل أبيب .

وضوح الرؤية الاستراتيجية لدى الفئة الحاكمة، وهي الرؤية التي حدد معالمها وزير الخارجية الدكتور أحمد داود أوغلو في أكثر من لقاء على النحو التالي: تركيا أكبر من أن تكون مجرد ممر أو جسر بين الشرق والغرب، ولكنها مؤهلة لأن تصبح دولة مركز وصاحبة قرار في محيطها، في الوقت ذاته فإنها لا تعتبر الغرب قدرها وخيارها الوحيد، لكنها مع الغرب بأمر الجغرافيا ومع الشرق بحكم التاريخ، وهي تعتبر أن دورها ومن ثم مجالها الحيوي يمتد من مضيق اسطنبول ldquo;البوسفورrdquo; إلى مضيق هرمز، ومن القرص (المنطقة الحدوية بين تركيا وأرمينيا) إلى موريتانيا، لكي تقوم تركيا بالدور الذي تطمح إليه فينبغي أن تحل مشكلاتها مع جيرانها، فيما سمي بسياسة ldquo;تصفيرrdquo; المشكلات، أي جعلها على درجة الصفر .

-3-

في التفكير الاستراتيجي فإن الاستقرار ومن ثم النهوض في الشرق الأوسط يقوم على أعمدة ثلاثة . هي مصر ممثلة للعرب وتركيا وإيران، وهو ما اعتبره الدكتور جمال حمدان أستاذ الجغرافيا السياسية الأشهر ldquo;مثلث القوةrdquo; في المنطقة . ويرصد الباحثون أن التفكير الاستراتيجي الغربي ظل حريصاً دائماً على ألا تلتئم أضلاع ذلك المثلث . وجيلنا عاصر المرحلة التي قادت فيها مصر حركة التحرر الوطني في المنطقة، بعدما امتلكت قرارها، في حين كانت تركيا وإيران تدوران في فلك المعسكر الغربي، وتراهن ldquo;إسرائيلrdquo; على أن تحالفهما معها من شأنه أن يحاصر العالم العربي ويضغط عليه، لكن انقلاباً حدث في ذلك المشهد خلال الثلاثين سنة الأخيرة، بمقتضاه خرجت إيران من المعسكر الغربي، وحافظت تركيا على استقلالها إزاءه . ومن ثم خسرت ldquo;إسرائيلrdquo; أهم حليفين لها في المنطقة، وفي الوقت ذاته أقامت مصر تحالفاً ldquo;استراتيجياًrdquo; مع الولايات المتحدة، وعقدت تصالحاً مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وهو ما بدد الأمل في تكامل أضلاع مثلث القوة، وأدى إلى انفراط عقد العالم العربي وأحدث فراغاً كبيراً في المنطقة، بدا مُهَيئاً، بل جاذباً، للتمدد التركي .

عبر عن هذا المعنى الكاتب السياسي المخضرم جنكيز شاندلر، أهم معلقي صحيفة ldquo;راديكالrdquo; التركية، في الندوة التي عقدت أخيراً باسطنبول حول الحوار العربي التركي، إذ قال إنه في حين تعاظمت القوة السياسية والاقتصادية لتركيا، فإن مصر بدت قلعة جرى تفريغها، وإن تمدد تركيا في الفراغ المخيم على الشرق الأوسط بعد غياب مصر، كان المصدر الحقيقي لإزعاج ldquo;الإسرائيليينrdquo; . وفي رأيه أن توتر العلاقات بين أنقرة وتل أبيب سابق على حادثة منتدى دافوس (الذي انتقد فيه أردوغان السياسة ldquo;الإسرائيليةrdquo; علناً وانسحب من الجلسة التي كان بيريز متحدثاً فيها)، كما أنه سابق على العدوان ldquo;الإسرائيليrdquo; على غزة، وعلى انقضاض ldquo;إسرائيلrdquo; على أسطول الحرية وقتل تسعة من الأتراك . ذلك أن ldquo;إسرائيلrdquo; والكلام لايزال له تصورت بعد تنحية مصر وإخراجها من المشهد العربي أن الساحة قد خلت لها وأصبحت بغير منافس، لكنها فوجئت بالصعود والتمدد التركيين وبما يترتب عليهما من ظهور منافس لزعامتها وهيمنتها على المنطقة، وهو ما أثار حفيظتها تماماً مثلما حدث مع إيران وأدى إلى استنبات بذرة الحساسية والتوتر بين البلدين اللذين ربطا ب59 اتفاقية للتعاون، بينها 16 اتفاقية أمنية وعسكرية . وقد نمت تلك البذرة بمضي الوقت، متغذية بالممارسات والعربدة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، الأمر الذي أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه الآن .

-4-

لأن التاريخ لا ينتظر أحداً، ولكن عجلته تدور بمن حضر في مجراه وامتلك إرادة الانخراط في صناعة أحداثه، فإن خروج مصر من المشهد العربي في ظل تحالفاتها الجديدة، لم يوقف عجلة التاريخ في الشرق الأوسط، وكل الذي حدث أن اللاعبين تحركوا وفي حسبانهم أن مقعدها القيادي شاغر، ولم يملأه أحد . وأذكر هنا وأكرر أن من بين المتغيرات الاستراتيجية المهمة في المنطقة أن ldquo;إسرائيلrdquo;، وإن بدت أقوى عسكرياً، فإنها غدت أضعف بكثير استراتيجياً وسياسياً، بعد فشلها في كسر إرادة المقاومة في لبنان وغزة، وبعدما أصبحت تدافع عن نفسها داخل حدودها وليس خارجها، وبعدما فقدت أهم حليفين لها في المنطقة (إيران وتركيا)، وبعدما خسرت الرأي العام العالمي بعد عدوانها الفج على أسطول الحرية في المياه الدولية . وتلك عوامل يمكن أن توظف لمصلحة انتزاع الحقوق العربية إذا وجدت من يحسن استخدامها .

على صعيد المتغيرات الاستراتيجية الأخرى بوسعنا أن نرصد المؤشرات الآتية:

اقتراب تركيا من المشهد الفلسطيني عزز من موقع قوى الصمود في المنطقة . وحين قال وزير خارجيتها مؤخراً إن تركيا هي اليد اليمني للعرب فإن تلك بدت لغة جديدة تعد امتداداً لكلام مماثل تحدث به أردوغان أمام قمة طرابلس العربية .

عقدت تركيا سلسلة من اتفاقيات التعاون الاستراتيجي مع مجلس التعاون الخليجي، ومع الدول التي تبادلت معها اتفاقيات إلغاء تأشيرات الدخول وتحرير التجارة (سوريا ولبنان والأردن وليبيا والعراق، وهناك اقتراح قدم إلى مصر أثناء الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس مبارك لأنقرة، وقد وعد بدراسته) .

وذهبت تركيا إلى أبعد من ذلك حين أعلنت في أثناء انعقاد المنتدى العربي التركي في اسطنبول، عن إنشاء مجلس أعلى للتعاون مع سوريا ولبنان والأردن، وإقامة منطقة حرة لانتقال الأفراد والبضائع فيما بين الدول الأربع .

ثمة تقارب وتفاهم سياسي مشهودين بين تركيا وسوريا وقطر، وكان لقاء قادة الدول الثلاث خلال الشهر الماضي في أنقرة لمناقشة تشكيل الحكومة العراقية علامة بارزة في هذا الاتجاه، وقرينة على اتساع نطاق التشاور بين الدول الثلاث، بحيث شمل أحداث المنطقة المحيطة .

ثمة تفاهمات مستمرة بين تركيا وإيران وسوريا حول عدد من الملفات المهمة، على رأسها الوضع في العراق وملف النفط والغاز (إيران تعد المصدر الثاني لتمويل تركيا بالطاقة بعد روسيا) ومشروعات شبكة المواصلات التي تربط بين الدول الثلاث إضافة إلى لبنان والأردن .

تتحدث الدوائر السياسية في دمشق عن رؤية استراتيجية جديدة يتبناها الرئيس بشار الأسد تسعى من خلالها سوريا إلى أن تصبح ممراً ومعبراً بين البحور الأربعة: الخليج العربي، الأبيض المتوسط، بحر قزوين والبحر الأسود . وهي تصبح خمسة إذا أضفنا البحر الأحمر . وبمقتضى هذه الرؤية تصبح سوريا عقدة ربط بين الشرق والغرب وبين تركيا والعالم العربي . وقد تحدث الرئيس الأسد في هذا الموضوع في أثناء لقائه رجال الأعمال في اسطنبول عام ،2004 حين ذكر البعض أن سوريا هي بوابة الأتراك إلى الخليج العربي وأن تركيا بوابة سوريا إلى أوروبا .

قد تكون هذه مجرد تمنيات وأحلام تراود القادة، لكننا يجب أن نتذكر أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأن الذين يحلمون يظلون أفضل كثيراً من الذين فقدوا القدرة على الحلم، وشغلوا بتثبيت مقاعدهم عن التطلع إلى المستقبل . إنني أخشى حين يكتب تاريخ المرحلة الراهنة أن ينبري شاب في وقت لاحق متسائلاً: ألم يكن هناك بلد باسم مصر في تلك الأيام؟