سعيد الشهابي

لم ينس الدكتور محمد البرادعي، قبل ان يلقي محاضرته امام جمهور مصري وعربي في لندن يوم الجمعة 11 حزيران/يونيو، قضية المواطن خالد محمد سعيد، فطلب من الحاضرين الوقوف دقيقة حداد على روحه. وقبل بضعة ايام قادر مسيرة في الاسكندرية ضد التعذيب. وقد مر قبل بضعة ايام اليوم العالمي لمناهضة التعذيب (26 حزيران/يونيو)، وسط تجاهل رسمي كامل واهتمام شعبي محدود، وبدون مؤتمرات كبرى او احتجاجات جماهيرية واسعة. وربما انحصر الاهتمام بها بين نشطاء حقوق الانسان باقامة بعض الندوات هنا او هناك. هذا برغم ان التعذيب ممارسة بشعة تمارس بشكل روتيني في سجون الدول العربية. فلم يحدث قط ان تعرض أحد ممن يمارسها لمساءلة او محاسبة قانونية برغم بشاعة هذه الجريمة التي اعتبرت من بين الجرائم ضد الانسانية. ويبدو ان الوعي العالمي بطبيعتها وآثارها ما يزال ضمن الأطر النظرية، ولا يشعر بذلك الا الضحايا الذين يصل بعضهم الى حد اليأس من امكان ممارسة اية عدالة ذات معنى في المجتمع البشري المعاصر. واذا كانت دول العالم الثالث، خصوصا انظمة الحكم العربية قد جعلت التعذيب ممارسة ثابتة ضد المعارضين السياسيين، فان هذه الممارسة لم تختف تماما في الدول الغربية 'الديمقراطية'، وقد مورست بشكل ملموس في سجون غوانتنامو وابو غريب وقاعدة بغرام الافغانية، وفي السجون السرية التي تديرها وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية في ثلاثين بلدا حول العالم. واتهم عدد من ضباط الامن والجنود البريطانيين بمعاملة حاطة بالكرامة الانسانية مع عدد من السجناء في العراق، وتعتبر قضية بهاء موسى الابرز من حيث سوء المعاملة لانها حظيت بتحقيق واهتمام اعلامي وقضائي واسعين. وتعود وقائع القضية الى عام 2003 حيث لقي موسى حتفه في سن السادسة والعشرين بالبصرة جراء التعذيب عندما كان معتقلا لدى فوج لانكشير الملكي، في الجيش البريطاني. وعثر عليه في احد فنادق المدينة وهو مصاب باكثر من 90 اصابة.
ان غياب الاهتمام اللائق باليوم العالمي لمناهضة التعذيب يعكس عددا من الامور. اولها سعة الفجوة بين الشعار والممارسة. فالانظمة قاطبة ترفع شعار احترام حقوق الانسان، وتستنكر انتهاكها وترفض التعذيب، ولكن ممارسات اجهزة امنها لا تعكس ذلك. ثانيها: ان المشكلة وراء استمرار الانتهاكات ليست في غياب التشريعات المناسبة التي تحرم وتجرم التعذيب، بل في تطبيق تلك التشريعات، وفي غياب الآليات الضرورية للتأكد من ذلك التطبيق. ثالثها: ان الامم المتحدة، هي الاخرى، تمر بحالات من الصعود والهبوط في اهتمامها بالقضايا. ففي التسعينات وبالتحديد بعد حرب الكويت في 1991 تصاعد الاهتمام الدولي بحقوق الانسان، نتيجة التدخل الامريكي في المنطقة وتوجيه اللوم لواشنطن بسبب دعمها للانظمة الاستبدادية التي تنتهك تلك الحقوق. ولذلك عقد المؤتمر العالمي لحقوق الانسان في فيينا في 1993 الذي أكد على أهمية تعزيز التعاون الدولي الواسع واللاإنتقائي واللاتمييزي لتعزيز احترام الحقوق، استناداً إلى الحوار والتضامن والعمل المشترك من أجل تعزيز التمتع التام بحقوق الإنسان كافة. وسبق ذلك مؤتمر دولي لحقوق الانسان عقد في طهران في 1968 وأكد 'أن الهدف الرئيسي للأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان هو أن يتمتع كل إنسان بأقصى الحرية والكرامة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف ينبغي لقوانين كل بلد أن تمنح كل فرد، بصرف النظر عن عنصره أو لغته أو دينه أو معتقده السياسي، حرية التعبير والإعلام والضمير والدين، وكذلك حق المشاركة في حياة بلده السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية'. هذه المؤتمرات الدولية تعكس جانبا من الوعي المعاصر بضرورة احترام حقوق الانسان. هذا الوعي كان له تفاعل لولبي متصاعد، تمخضت عنه تشريعات دولية غير مسبوقة. هذه التشريعات تتمثل بالمواثيق والعهود والقوانين التي تنظم ثقافة حقوقية تهدف لتنظيم الحياة البشرية وفق اسس الحرية والعدالة. ولذلك فهناك الآن كم هائل من هذه التشريعات التي تنظم حقوق المرأة والطفل، وتناهض التمييز العرقي وتكفل الحريات بما فيها حرية التعبير والمعتقد والتجمع. وهناك العهدان الخاصان بالحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية. هذا بالاضافة لمعاهدة منع التعذيب التي اقرت في العام 1987. وقد لاحظ النشطاء ضرورة ضمان تطبيق تلك التشريعات، ومن خلال تدويل مسألة حقوق الانسان، اصبح لدى الامم المتحدة آليات محددة لتطبيق تلك التشريعات، فأصبح هناك المقررون الخاصون حول الاعتقال التعسفي والتعذيب وحول المرأة وغيرها، حتى بلغ الامر تعيين المفوض السامي لحقوق الانسان، وهو المنصب الذي تشغله حاليا السيدة نافي بيلاي. وعرفت هذه السيدة بنشاطها المتواصل لتطوير ثقافة الحقوق في انحاء العالم. وفي زيارتها الاخيرة قبل شهرين لدول مجلس التعاون حثت تلك الدول على مواصلة اتجاه الاصلاحات الرامية لتحسين حقوق الانسان.
برغم ذلك فقد كشف العديد من النشطاء الحقوقيين وهم يحتفون باليوم العالمي لمناهضة التعذيب عن اوضاع حقوقية هشة في اغلب الدول العربية. فزيارة السيدة بيلاي لدول مجلس التعاون، اتسمت بقدر كبير من الرسمية، حيث اقتصرت في اغلب الاحيان على مقابلة الزعماء والنشطاء الرسميين، ولم يستطع النشطاء المستقلون مقابلتها. هذا يعني انها سمعت نصف الحقيقة في اغلب الاحوال. اما الجوانب السوداء في المجال الحقوقي فما يزال خافيا خصوصا مع غياب الحريات الاعلامية والصحافية، وقمع حرية التعبير على نطاق واسع. فليس جديدا القول بان انتقاد السياسات الرسمية في اغلب الدول العربية يؤدي بصاحبه الى السجن وربما التعذيب والموت. هذه حقائق تؤكدها الوقائع. ففي مصر مثلا، وهي البلد العربي الكبير، مارست قوات الامن في بضع ساعات من يوم الثامن من هذا الشهر اصنافا عديدة من التعذيب الوحشي بحق الشاب خالد محمد سعيد، ادت الى استشهاده، ليعرف باسم 'شهيد الطوارئ'، نسبة لقوانين الطوارئ المفروضة على البلاد منذ ثلاثين عاما. وبدلا من تجريم الشرطيين اللذين اعتقلاه وعذباه حتى الموت، عمد المسؤولون لتلفيق الحقائق بالادعاء بان الضحية مات 'مختنقا'، الامر الذي كذبته جملة وتفصيلا صور جسده الممزق. وسبق ذلك وفاة السيد يوسف حمدان ابو زهري (38 عاما) شقيق سامي ابو زهري الناطق باسم حماس، الذي توفي نتيجة التعذيب خلال فترة اعتقاله لدى جهاز مباحث امن الدولة بالقاهرة. وقد سبقته قوافل من ضحايا التعذيب مثل الطفل محمد محمود النبهاوي، ورمضان سالم جمعة ومصطفى لبيب حمدان. ان التعذيب بهذه الوحشية لا يستقيم مع قيم العصر والحق او الاسلام والانسانية. ولذلك اعتبرتها التشريعات الدولية من بين 'الجرائم ضد الانسانية'. فالتعذيب، يهدف لكسر ارادة الضحية لكي يقول ما يريده الجلادون، او يوقع الافادات المزورة التي يكتبونها بايديهم. والارادة تعبير عن عقل الانسان، وهو ما يميزه عن الحيوان، فاذا سلبت ارادته تحول الى حيوان فاقد الارادة والقدرة على التفكير المنطقي. واستهداف السياسيين لمعاملتهم بهذه الغلظة ممارسة لدى الانظمة القمعية في شتى بلدان العالم.
وتتميز البلدان غير المستقرة سياسيا، او التي تواجه انظمتها مجموعات سياسية معارضة، بانها الاكثر انتهاكا لحقوق الانسان، وان كانت الدول 'الديمقراطية' في الغرب قد تورطت هي الاخرى في ممارسة التعذيب كسياسة ثابتة بحق معارضيها. وقد تشوهت سمعة امريكا بشكل خاص بسبب اقرار التعذيب خصوصا غمر رأس الضحية بالماء لايهامه بانه سوف يغرق، لاجباره على 'الاعتراف'. وتعتبر عودة امريكا لممارسة التعذيب من أخطر التطورات السلبية في المجال الحقوقي في السنوات الاخيرة. ولذلك فقدت واشنطن القوة النفسية التي تؤهلها للقيام بدور فاعل لمناهضة التعذيب بين دول العالم الاخرى، بل ان الدول الحليفة لواشنطن هي الاكثر ممارسة للتعذيب. فالاردن مثلا من بين الدول التي تمارس التعذيب كاجراء روتيني من قبل اجهزة امنها. وقبل 18 شهرا، اتهمت منظمة 'هيومان رايتس ووتش' سلطات الأمن في السجون الأردنية بممارسة التعذيب على نطاق واسع وجدّدت دعوة الدول المانحة لربط مساعداتها إلى للأردن بتحسين سجل التعذيب في السجون. وأكدت المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، سارة ليا ويتسن، أن 66 نزيلا من بين 110 استمعت 'هيومان رايتس واتش' إلى إفاداتهم في سبعة سجون خلال عامي 2007 و 2008، تحدثوا عن تعرضهم لتعذيب وسوء معاملة، شارك فيها شخصيا خمسة مدراء سجون. وفي 14 ايار/مايو الماضي عبرت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب عن قلقها تجاه حالات القتل والاختفاء القسري والتعذيب والاعتقالات التعسفية والاعتقالات في اليمن الى اجل غير مسمى من دون اتهام او محاكمة، ويجري تنفيذها في اطار الحرب على الارهاب. وقال ناشطون جنوبيون ان التعذيب ادى الى وفاة عدد من السجناء السياسيين من بينهم فارس طماح وأسعد سالم حداد. وتعتبر السعودية واحدة من الدول التي تمارس التعذيب بحق السجناء السياسيين على اختلاف مشاربهم الايديولوجية والسياسية. وقد وجهت منظمة العفو الدولية الاسبوع الماضي مناشدة للسلطات السعودية للافراج عن المواطن منير باقر الجصاص الذي اعتقل العام الماضي والذي وردت انباء متكررة عن تعرضه للتعذيب. وفي شهر اذار/ مارس اصدرت منظمة هيومن رايتس ووج الامريكية تقريرا موسعا حول البحرين، بعنوان 'العودة للتعذيب' يحمل افادات عشرين معتقلا أخلي سبيلهم، وأكدوا تعرضهم لانواع عديدة من التعذيب. وسوف يصدر تقرير دولي آخر حول التعذيب في سجون هذا البلد الخليجي الصغير. وتعتبر 'اسرائيل' من اكبر منتهكي حقوق الانسان في العالم، وقد صدرت تقارير دولية كثيرة تدين اجهزة الامن الصهيونية بانتهاكاتها الواسعة لحقوق الانسان.
يعتبر اليوم العالمي لمناهضة التعذيب مناسبة لاستعراض اوضاع حقوق الانسان في العالم العربي، خصوصا في مجال التعذيب الذي هو أسوأ أشكال الاضطهاد الذي يتعرض له السجناء السياسيون. ومن المتوقع استمرار الاحتجاجات ضد الانظمة العربية طالما تجاهلت تلك الانظمة المطالب الشعبية المشروعة بالاصلاح السياسي والانفتاح، والتخلي عن الاستبداد والقمع. فالدول العربية من اكثر دول العالم تخلفا في الممارسة السياسية الديمقراطية التي لا وجود لها من الناحية الموضوعية. فالانتخابات المحدودة لمجالس شورى عديمة الصلاحية لا علاقة لها بالديمقراطية في شيء، وبالتالي فسوف تستمر الشعوب في نضالها من اجل تحقيق شيء من الاصلاح الضروري لارتقائها وامنها واستقرارها. وما ظاهرة الارهاب الا واحد من مظاهر ردود الفعل ضد هذه الاوضاع التي يمتهن فيها الانسان، وتصادر حقوقه، وتنتهك كرامته. ولا تستطيع امة ان تنهض ما لم تكن جبتها الداخلية متماسكة، وهذا لا يتحقق الا بالتكامل بين الجماهير والقيادة السياسية. هذا التكامل لا يتحقق مع استمرار الانتهاكات الحقوقية واساليب الاستعباد والاضطهاد. المشكلة ليست في التشريعات التي اصبحت اليوم شافية وافية، ولكن في الالتزام بها. هذه التشريعات تعتبر التعذيب جريمة ضد الانسانية، وتطالب الدول بتوقيع اتفاقية مناهضة التعذيب، وهناك لجنة خاصة تابعة لمفوضية حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة، مخولة بمتابعة مدى تنفيذ الدول الموقعة على تلك الاتفاقية بنصوصها. ومن بين اهم نصوص تلك الاتفاقية المادة الثانية التي تنص: 'على كل بلد أخذ كل الإجراءات من أجل منع التعذيب، ولو كان في حالة حرب، أو تمرّد أو حالة طوارئ، أو أي وضع كان، فليس هناك أية حجة تسمح بالتعذيب، ولو أعطيت الأوامر لشخص، فهذا لا يعطيه الحق في ممارسة التعذيب، وعليه عصيان تلك الأوامر'. اما المادة الرابعة فتنص كالتالي: 'على كل بلد، تدوين منع التعذيب في قوانينها، كسائر الجرائم، ويتم تحديد عقوبات صارمة تجاه الجلاد وكل أشكال المشاركة'. ولكن برغم توقيع الدول اغلب الدول العربية تلك الاتفاقية، وبرغم انتشار التعذيب كممارسة ثابتة في اجهزة الامن، فلم تتم محاكمة اي من مرتكبي جرائم التعذيب في اي بلد. فالجلادون يعلمون انهم لن يدفعوا ثمن ممارساتهم بحق السجناء. صحيح ان منظمات المجتمع المدني تسعى لتفعيل الاتفاقيات والآليات الدولية على امل منع التعذيب في بلدانها، ولكنها تجد نفسها في صراع مرير مع انظمة حكم جائرة، لا تحترم حقوق الانسان ولا تشعر بخطر الاستهداف من قبل المجتمع الدولي المتواطئ في جرائم التعذيب. أهي أزمة أخلاقية؟ أم دينية؟ أم مجتمعية؟ أهي مشكلة في المفاهيم ام القيم ام الضمير؟ أيا كانت، فسوف يظل الاصلاح والتطوير السياسيان مؤجلين حتى يتحقق للنشطاء السياسيين أمنهم على انفسهم، وحصانتهم من سوء المعاملة الحاطة بالكرامة الانسانية، خصوصا التعذيب. فما لم يتم تجريم هذه الممارسة فلن تستطيع امتنا السير على طريق التقدم.