مصطفى الفقي

انسحب خالد جمال عبد الناصر من الحياة في هدوء الزاهدين من دون صخبٍ أو ضجيج بعد معاناة طويلة مع المرض، وعندما كنت أؤدي الصلاة عليه بجوار ضريح والده، مر في ذهني شريط ذكريات لم أستطع تجاوزه عن أبناء رؤساء مصر الأربعة، فابن محمد نجيب لقى مصرعه في حادث غامض بألمانيا كان أحد شهوده العالم المصري الكبير د .محمد النشائي، كما عمل الابن الثاني للرئيس المصري الأول سائقاً للتاكسي في شوارع القاهرة! بينما يقبع ابنا الرئيس الرابع مبارك في سجن طرة . . إنها محنة من يجلس آباؤهم على المقعد الكبير والذي يعدو نحوه الآن المتسابقون! وبين الرئيسين الأول والرابع جاء جمال عبد الناصر وأنور السادات على نحوٍ أكثر استقراراً، ولعلي أدلي في هذه المناسبة بشيء من شهادتي عن قرب لمشاهد عشتها ورأيتها:

(1) سعت زميلة دراستي د . هدى جمال عبد الناصر إلى العاصمة البريطانية لجمع مادة علمية لأطروحتها في الدكتوراه، وكنت في استقبالها في مطار لندن بناءً على تكليف من زميلي وصديقي زوجها الأستاذ حاتم صادق . وحدث في مطار هيثرو ما لم يخطر لي على بال حين تفحص ضابط الجوازات البريطاني جواز سفر الدكتورة هدى وقال لي بإنجليزية فخيمة ldquo;هل هي ذات صلة بالرجل العظيم ذاته؟rdquo; فأجبته ldquo;إنها ابنته الكبرىrdquo;، فوقف الرجل أمامها في احترام وختم على جواز سفرها إقامة مفتوحة في بريطانيا! وظل يرمقها بنظرات التقدير والإجلال، عندئذٍ آمنت بأن الخصم القوي أفضل من الصديق الضعيف .

(2) زاملت الراحل خالد عبد الناصر وأخاه عبد الحميد زميلي في السفارة المصرية لسنوات عدة في لندن وارتبطنا بصداقة عمر يعززها أدبهما الجم وتواضعهما المستمر، وكان يزورنا من حين إلى آخر ثالث الإخوة عبد الحكيم بذكائه ومرحه وجاذبيته . وذات يوم فتح د . خالد عبد الناصر باب شقته وأنا معه ليجد تحت (عقب الباب) رسالة يقول كاتبها (أخي الكبير خالد . . جئت لحضرتك لأطمئن عليك ولكن لم أجدك لأنني أتطلع لرؤيتك)، مع عبارات أخرى جميلة ورقيقة موقعة من جمال أنور السادات الذي يعترف له الجميع بالأدب الجم والتربية الراقية، وقد كتب تلك الرسالة وأبوه في السلطة رئيساً للجمهورية، بينما كان عبد الناصر قد رحل قبل ذلك بسنوات، عندئذٍ آمنت بأن البيئة التي ينشأ فيها الإنسان والأسرة التي تضع أمام طفلها قيم الحياة ومبادئها وتحميه من أمراض الجاه وطغيان الحكم، إنما تقدم للوطن ابناً محترماً لرئيس قاد البلاد لسنوات عدة .

(3) ظهر ldquo;تنظيم ثورة مصرrdquo; في منتصف ثمانينات القرن الماضي بقيادة زميلي في السفارة المصرية محمود نور الدين الذي كان نموذجاً للوطنية والشهامة والكرم ومساعدة الغير، ومسّت القضية في بعض جوانبها اسم المناضل د . خالد جمال عبدالناصر، وفي إحدى جلسات محاكمة قيادات ذلك التنظيم طالب الادعاء بتوقيع عقوبة الإعدام على خالد عبدالناصر، فانزعجت والدته الراحلة لسماع هذه المرافعة بشكل غير مسبوق، وأوفدني إليها الرئيس السابق مبارك الذي كنت أعمل معه حينذاك لكي أهدئ من روعها وأطمئن قلبها بحكم صلتي بالعائلة ومعرفتهم بي، وجلست إلى السيدة الفاضلة التي كانت ضيفة على عشاء في منزلي في العاصمة الهندية قبل ذلك بسنوات هي وابنتها السيدة منى، حيث شهدت كيف تسابق السفراء العرب على طلب دعوتي لهم للتشرف بلقائها رغم القطيعة الدبلوماسية حينذاك، وقد كانت ضيفةً على السيدة أنديرا غاندي التي استقبلتها شخصياً في مطار نيودلهي وقد شرحت لأرملة الرئيس الراحل عبد الناصر أن ما قيل هو طلب من النيابة ولكنه لا يمثل حكماً للمحكمة، وكانت تعلم أن ابنها خالد خارج البلاد، لذلك هدّأت من روعها وتشرفت بالجلوس إليها في مكان تحيطه صور الرئيس الراحل مع زعماء العالم بالطبعة القديمة، أبيض وأسود، وقد شعرت يومها بأنني أشهد جزءاً من تاريخ هذا الوطن ومعاركه الكبرى .

(4) التقيت الصديق الراحل خالد عبد الناصر في مناسبة دعانا إليها الناشط السياسي السعودي محمد سعيد الطيب عام ،2009 وحضرها جمع من المفكرين والأدباء، ويومها التقط الصديق الروائي يوسف القعيد طريقة ندائي على خالد عبد الناصر بكلمة (خلدون)، وهو الاسم الذي كنت أناديه به دائماً عبر السنين، ولقد كان خالد عبد الناصر في تلك المناسبة معافى متألقاً ومعه ابنه جمال خالد الذي أسعد بزيارته من حين إلى آخر في مكتبي وأرى فيه صورة من أدب أبيه وصلابة جده! إلى أن جاءت محنة المرض الأخير واتصلت بي ابنتي التي كانت تعمل في العاصمة البريطانية في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي لكي تخبرني بتأثر شديد أنها رأت عمها خالد جمال عبد الناصر يمشي في بيكر ستريت مستنداً إلى اثنين من أصدقائه ويبدو معتل الصحة للغاية! يومها دق قلبي وشعرت بأنها نذر النهاية!

(5) التقيت الراحل خالد عبد الناصر في مناسبة ثقافية بنقابة الصحفيين منذ عدة شهور، وقد آلمني أن أراه في حالة صحية متردية، وقد حرصت على الجلوس بجانبه كل الوقت، وكأنما كنت أتحدث إلى شخص آخر غير الذي عرفته عبر السنين، فقد كان المرض داهماً والموت متربصاً، ولقد رأيت في جنازته عشرات الآلاف من فقراء مصر وفلاحيها، ومثقفيها وسياسييها وعلمائها أيضاً، يودعون شاباً وطنياً أحبوه، ومصرياً زاهداً احترموه . لقد رأيت في ليلة العزاء شخصيات جاءت خصوصاً من العواصم العربية المختلفة للتعبير عن مشاعرهم تجاه رحيل واحد من رموز أجيالهم المتعاقبة .

لقد تذكرت وأنا أجلس في ldquo;مسجد القوات المسلحةrdquo; تلك المكالمة التي تلقيتها من زميلي السفير رضا شحاتة الذي خلفني في موقعي بالرئاسة، وهو يبلغني أن الرئيس السابق يطلب مني الذهاب إلى خالد عبدالناصر لكي أبلغه طلباً من رئيس الجمهورية بألا يعمل في السياسة ويكفيه أنه ابن جمال عبد الناصر، لأنه كان قد تردد وقتها في مطلع تسعينات القرن الماضي احتمال انضمامه إلى أحد الأحزاب السياسية، ولقد تأملت قبة المسجد الرائعة وبناءه البديع وقلت ليت الرئيس السابق أرسل من يبلغ ابنه ذات النصيحة حتى يعفيه من أطماع التوريث ومحنة السياسة، وربما كان قد أعفى الوطن كله من سنوات عشر عجاف انتهت بثورة شعبية لفظت فيها مصر كل من لا تريد .