جميل مطر

بول كيندي الأستاذ في جامعة ييل ومؤلف الكتاب الشهير في العلاقات الدولية ldquo;بزوغ وسقوط القوى العظمىrdquo; كتب منذ أيام مقالاً في صحيفة ldquo;نيويورك تايمزrdquo; يعرض فيه فكرة أن العالم يمر في مساحة الحد الفاصل بين عصرين، عصر يرحل وعصر يحل . وجدت بول كيندي يبالغ في هذا المقال كعادته في بعض ما يكتب . يقول إن المرحلة الراهنة التي يمر فيها العالم أشبه ما تكون بالمرحلة التي وقعت بين عامي 1480 و،1530 وهي المرحلة حسب رأيه التي شهدت أحداثاً بالغة الأهمية، حددها في ثلاثة تطورات هي انقسام المسيحية، وخروج أوروبا إلى الاستعمار في آسيا والأمريكتين وأخيراً الثورة التي فجر طاقتها اختراع غوتينبرج لآلة الطباعة . ثم يذهب إلى حد تصور أن من عاش في عالم 1480 وعاد يعيش في عالم ،1530 ما كان ليجد شبهاً بين العالمين .

يعتقد بول كيندي أن تطورات على القدر نفسه من الأهمية وقعت في العقود الأخيرة، وهي في مجموعها تدفعه إلى الاقتناع بأن المرحلة التي نعيش فيها هي الأخرى مرحلة حد فاصل بين عالمين، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وعالم جديد في حالة بزوغ . أما التطورات التي يشير إليها فأربعة: أولها أن الدولار لم يعد عملة احتياطي وحيدة في عالم اليوم، بدليل أن دولاً عديدة صارت تستخدم سلال عملات، انضم إلى الدولار فيها اليورو الأوروبي واليوان الصيني . ثانيهما سقوط المشروع الأوروبي الذي صاغ فكرته جان مونيه وروبرت شومان، وهو المشروع الذي حقق سلسلة من النجاحات المؤسسية حين ظهر إلى الوجود البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية والمحكمة الأوروبية، ولكن بقي مشروعاً من دون روح ومفتقراً إلى الحماسة الواجبة للوصول إلى الوحدة السياسية كمحطة نهائية . ثالث التطورات التي اعتبرها بول كنيدي من علامات الانتقال من عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى عصر جديد، هو سباق التسلح الجاري بمعدل متسارع في منطقتي جنوب آسيا وشرقها، الأمر الذي يعني في نظره أن النظام الدولي قد خطا خطوة أساسية نحو إحلال مركزية آسيوية محل المركزية الأوروبية، بكل ما يعنيه هذا الانتقال من ldquo;ثورةrdquo; في مستقبل التفاعلات الدولية . . . أما التطور الرابع فهو انحسار دور الأمم المتحدة وبخاصة دور مجلس الأمن نتيجة الفشل المتكرر للمنظمة الدولية في التعامل بجرأة مع القضية الفلسطينية ثم فشلها الراهن في التعامل مع النظام الحاكم في سوريا . كانت مبالغة أمريكا في الانحياز لrdquo;إسرائيلrdquo; السبب المباشر في رأيه في فشل المنظمة، وكان الموقفان الروسي والصيني من العنف الذي يمارسه النظام السوري ضد الشعب سبباً غير مباشر ولكنه سبب على كل حال .

لاحظنا أن ثورة الربيع وحركة احتلال وول ستريت ومواقع أخرى في ألف مدينة أو أكثر لم يكن بين التطورات التي يعدها بول كنيدي علامة من علامات الاستعداد للانتقال من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة أخرى . بل ويلفت الانتباه أنه لم يهتم اهتماماً كافياً بالأزمة المالية العالمية التي كادت تطيح فعلاً بالمشروع الأوروبي، وتهدد الآن في صور متعددة استقرار الولايات المتحدة والنظام الرأسمالي العالمي . كذلك يلفت الانتباه أنه لا يرى تشابكاً يذكر بين ldquo;ثوراتrdquo; الربيع العربي والأزمة المالية العالمية، ولا يرى صلة واضحة بين تطورات الأوضاع الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط ومرحلة جديدة في طور البزوغ في العلاقات الدولية .

ومع ذلك أتصور أن بعض التطورات في الإقليم العربي استطاعت أن تخط خطوطاً لا يمكن إهمالها أو تجاهلها . أعرف أنه من الصعوبة بمكان الكتابة بثقة كافية عن علامات نتمكن بواسطتها من تحديد موقعنا في الحد الفاصل بين عهدين، ولكني أعرف بالتأكيد أننا دخلنا الحد الفاصل . قد نبقى فيه فترة طويلة أو قصيرة قبل أن ننتقل إلى عهد جديد، ولكننا لن نعود منه فنعبر إلى عهد ما قبل الدخول فيه . أستند في هذا التصور إلى أمثله لتطورات واقعة بالفعل اخترتها لأنها حفرت علامات على أرض الأقليم وواقعه السياسي والاجتماعي .

* أولا: تشكلت صورة قوية ومتماسكة لدى شعوب المنطقة، ولن يكون سهلاً بعد الآن اقناع شعب من هذه الشعوب، وبخاصة الشعوب التي انتفضت ضد الاستبداد، للعودة إلى عادة من عاداتها المتخلفة وهي القبول بتولي عسكريين من محترفي الحرب مسؤولية الحكم والسياسة وإدارة شؤون المجتمع . إن الثورات التي اشتعلت في مصر واليمن وليبيا وسوريا، كانت في أحد جوانبها احتجاجاً على أنظمة حكم (أحدها السوري تحديداً استمر في شكل أو آخر ستين عاماً)، يقودها عسكريون أو اعتمدت على دعم المؤسسة العسكرية . ومع ذلك يجب أن نعترف بأن وجود هذه الأنظمة العسكرية لم يكن السبب الوحيد في تخلف المجتمعات التي أداروها، فللتخلف العربي أسباب كثيرة بدليل وجوده في دول عربية لا يديرها العسكريون .

* ثانياً : لن يعود، في الأجل المنظور، الجدل في الإقليم العربي إلى سابق عهده في ما يتعلق بدور الإسلام السياسي في المجتمعات العربية . لقد خطت مجتمعات عربية، وبخاصة تلك التي نشبت فيها ثورات واحتجاجات سياسية خطوات واسعة نحو الاعتراف بشرعية قيام أحزاب بمرجعيات إسلامية، وسيكون صعباً تصور مرحلة قادمة تعود فيها إلى النقاش العام فكرة عدم الاعتراف بحق هذه الأحزاب والتيارات في ممارسة حقها في الحكم . أظن أن مرحلة انتهت ومرحلة تبدأ . انتهت مرحلة مقاطعة هذه الأحزاب والتيارات أو عزلها دولياً وإقليمياً وقطرياً، وبدأ ت مرحلة تطرح اندماج هذه التيارات في مجتمعات ديمقراطية كتحدٍ تاريخي . ولن يكون الانتقال سهلاً، وقد لا يتم كله سلمياً، فالأطراف كثيرة التي يتعين عليها إعادة النظر في أفكارها وممارساتها من أجل نجاح عملية الاندماج .

ثالثا: نحن بالتأكيد صرنا داخل الحد الفاصل إذا اتفق الرأي بيننا على أن مركزية القرار الإقليمي في العالم العربي تنتقل تدريجياً ولكن بمعدل متسارع من موقعها في بلاد مصر والشام، أو ما عرف بدول المشرق العربي، إلى موقع جديد في بلاد الخليج . هنا أيضاً لن يكون العيش داخل الحد الفاصل رحلة زمنية سهلة، فالمركزية عندما تنتقل من القلب إلى الأطراف ستشتبك حتماً مع دولة أو أكثر من الدول التي تعيش على أطراف النظام العربي أو في جواره . حدث هذا التطور المؤسف فعلاً عندما اختار صدام حسين انتزاع المركزية العربية من منطقة القلب العربي فدخل في حرب أليمة مع إيران .

* رابعاً: انكسر عنصر الخوف لدى الإنسان العربي . لا مبالغة أو أوهام وراء هذه العبارة، ولكنه انطباع راسخ لدى كل شخص تابع عن قرب وبموضوعية التطورات الحادثة في الشخصية العربية في دول الانتفاضات الربيعية، رغم الانتكاسات العديدة التي واجهتها هذه الانتفاضات . يعرف الكثيرون أن قوى دولية وإقليمية ولن تتوقف عن محاولة إجهاض الثورات والعودة إلى عهد سابق، لكنهم يعرفون أيضاً أن ما دفعته الشعوب من تضحيات وما تحقق لها من انتصارات، وما استعادته من كرامة وحرية إتخاذ قرار وإن بدرجة عالية من الفوضوية، لن تسمح لأحد بأن يمارس ضدها القمع والحرمان أو يغالي في توسيع الفجوة في الدخول وحماية الفساد الاجتماعي . . بعض هذه الشعوب ومنها شعب مصر لم تشعر في حياتها بأمل وعزة نفس كالتي عرفتهما وهي منتفضة .

أخيراً وصل التاريخ إلى العالم العربي وسط إعصار صاخب مدفوعاً بقوى تغيير هائلة وبدأ فور وصوله يدك حصوناً كثيرة في منطقة القلب . ولن تكون الطريق أمامه سالكة ولكن في كل الأحوال هي طريق في إتجاه واحد . لا عودة لنا وبخاصة بعد أن دخلت الأمة العربية حيز الحد الفاصل بين عهدين .