محمد عزالدين الصندوق

تطور مفهوم التنمية الاجتماعية بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، وعكف الفكر الاقتصادي والاجتماعي الغربي على دراسة ظاهرة التراجع نتيجة الحرب ومحاولة تجاوزها من خلال خطط تنموية. وعلى أساس هذا التصور للتنمية يُقدم البنك الدولي تعريفا للبلد النامي، مبنيا على أساس مقارنة الدخل، حيث يكون laquo;البلد النامي هو البلد الذي تعيش فيه الأغلبية على أموال أقل بكثير مما يعيش عليه السكان في البلدان الصناعية الكبرى المرتفعة الدخل، حيث تفتقر هذه الأغلبية إلى الخدمات العامة الأساسية مقارنة بهؤلاء السكانraquo;. وبقى هذا التعريف سائدا وما زال يستند إلى الجوانب الاقتصادية بالمقارنة مع الدول الصناعية الكبرى. الدول الغربية التي دَمرت بُناها التحتية الحرب العالمية الثانية عاشت تطورا فكريا واجتماعيا مختلفا تماما عما عليه الحال في مجتمعات الشرق الأوسط العربية والإسلامية. لذا كانت خطط التنمية تطمح لإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية وليس ما دمره سُكون حضاري دام قرونا. المشاريع الإنمائية جميعها تفترض وجود مجتمع متقبل لهذه الخطط ومتفاعل معها من أجل البناء. وهذا ما كان في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
إن مستعمرات الدولة العثمانية السابقة بالإضافة لإيران دخلت القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى من دون خسائر حضارية تُذكر لأنها في الأساس لم تكن لتمتلك ما تخسره سوى العنصر البشري المقاتل. خرجت هذه المجتمعات من سجن الزمن الذي عاشته قرونا ودخلت عصر الحضارة الحديثة من دون مقومات ومن دون خطط تأهيلية. دخلت القرن العشرين متخلفة عن القرن العشرين بقرون حيث لا بنى تحتية ولا مجتمعات متفتحة متعلمة تعرف ما تريد. إنه تخلف هائل يصعب تصوره ويشمل كافة جوانب الحياة المادية والاجتماعية والإنسانية والفكريةhellip;
لقد بنى الغرب ألمانيا بسبب التدمير الهائل الناتج عن الحرب العالمية الثانية فهل ستعوض تركيا العرب والمسلمين عن التخلف الحضاري الذي كانت سببا أساسيا فيه باعتبارها دولة مُستعمِرة. وهل ستعيد المسروقات الإسلامية إلى دولها الأصلية. وهل وهلhellip; إن مستعمرات الدولة العثمانية في الشرق الأوسط وأوروبا لا تزال تُعاني الأمرين نتيجة التخلف الحضاري لدولة الخلافة المقدسة. فهل ستعتبر تركيا الحالية نفسها وريثة تتحمل وزر الركود الحضاري الذي كانت سببه الأساسي؟ وإن لم تكن كذلك فعليها أن تنقد مرحلة قاسية دمرت فيها شعوب المنطقة نتيجة الانغلاق والتخلف الفكري.
على أية حال بدء البناء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى وما زال حتى وقتنا الحاضر ولكنه بناء متلكئ مرتبك ناتج إما عن اجتهادات الحاكم المتسلط أو في أحسن الأحوال عن خطط تنموية غير واضحة حاولت تقليد الخطط الغربية. لقد أثبت الواقع وللأسف أن البناء الممكن في هذه المنطقة من العالم لا يتم إلا في ظل أنظمة حكم مُتفردة سواء كانت جمهورية أو ملكية. منظومة الحكم المطلق هي التي أثبتت إمكانية البناء ولكن هذهِ المنظومات تَبني على رمال متحركة. حيث البناء هنا هو بناء الحاكم وليس بناء المجتمع. لذا كثيرا ما تعرض هذا البناء للتدمير سواء كان جُزئياً أو كلياً. الانتكاسات السياسية والانكسارات والهزائم العسكرية والانهيارات تتوالى والخسائر الاجتماعية سواء بالأرواح أو فرص التنمية أو الاقتصاد أكبر من أن تُقدر والخاسر الوحيد هو المجتمع ذاته. أما خطط التنمية فإنها تذهب هباءً مع ساستها وأحزابها. المدينة العربية هي مدينة السلطة والحاكم وليست مدينة المجتمع.
لقد أثبتت خطط التنمية جميعها فشلها بنسبة أو بأخرى ومعدل التنمية على العموم أقل بكثير من المتوسط لما كان متوقعا. إضافة لعدم تجانس التنمية فقد تكون هناك تنمية عمرانية مقابل تراجع في التنمية الاجتماعية وهكذاhellip; في هذه المجتمعات من السهولة بمكان أن تبني مدينة عصرية وحديثة جدا وبمساحة شاسعة ولكن من الصعوبة أن تُكون مجتمعا يحترم إشارة المرور وقواعده في القُرى والمناطق البعيدة عن رقابة أجهزة المرور.
هذه المجتمعات ولا شك لم تصل بعد لمرحلة الاستقرار المناسب للتمنية المطلوبة. إنها لا تزال تواجه تحديات ذاتية كبرى إضافة للتحديات الخارجية التي يفرضها الوضع الدولي المعاصر. ولكن التحديات الذاتية أشد خطورة وصعوبة في التجاوز من التحديات الخارجية. فعلى سبيل المثال لا الحصر تواجه المجتمعات العربية والإسلامية تحديات الذاتية من مثل:
البعد الشاسع للثقافة الاجتماعية عن روح العصر. وعدم القدرة على استيعاب الحداثة أو إيجاد البديل. وإن كانت هناك استجابة ضئيلة فإنها لا تستطيع مواكبة سرعة التغيرات العالمية السريعة.
التجانس الاجتماعي ما زال يئن تحت ضغوط الماضي والتاريخ وتقاليد القبيلة. الماضي بكل تفاصيله ما زال حيا ويفعل أفاعيله في المجتمع وليس هناك من قدرة على تجاوزه.
التخلف الكبير للمنظومات الحديثة المُتبناة إدارية كانت أو الاقتصادية أو التربوية أو أوhellip;.
عدم وضوح الهوية الاجتماعية الموحدة للمجتمع والتي تثير تناحرات خطرة.
مجتمعات تعاني مثل هذه الأزمات لا يمكنها أن تحتضن التنمية. هذه المجتمعات بحاجة إلى خطط إعادة تأهيل بعد خروجها من نفق زمني طوله قرون عدة وليس خطط تنمية. خطط التنمية أثبتت عدم نجاحها وسطحية عملها في هذه المجتمعات. إن محاولات التحديث في الشرق الأوسط لا تعدو عن أن تكون نُسَخا مُعدلة من محاولة أتاتورك الساذجة، والتي ما هي إلا نظرة عثمانية لطريقة التغيير أو تحديث قِشري مُبهرج كما فعل شاه إيران. إنها عمليات تجميل حضارية لا تتجاوز الوجه والمحيا.
إن كل النظم الاجتماعية المعاصرة والتي تطمح المجتمعات العربية إلى تبنيها أو اقتباسها بنسبة أو أخرى تمت وتطورت تدريجيا خلال الثلاث أو الأربعة قرون الماضية. وتأهلت المجتمعات لها تدريجيا ولم تنفذ دفعة واحدة كخطة تنمية أو عملية تحديث. كانت عمليات تطور النظم مترافقة مع تطور المجتمع. أما ما يحدث في مجتمعات العرب فما هو إلا استيراد أنظمة معاصرة لمجتمعات مُتخلفة عنها زمنيا.
في مجتمعاتنا يُعزى التناقض الحاد (الذي يقود إلى رفض التحديث) ببساطة للأصالة والخصوصية الاجتماعية! ولا يعزى للفرق الزمني بين النموذج المُستَورَد والمجتمع المُستَورِد. إن مفهوم الأصالة والخصوصية الاجتماعية شيء والتخلف الزمني شيء آخر. الأصالة والخصوصية تتم عندما يكون هناك اتجاهان متطوران مختلفان ولكل منهما خصوصيته وأصالته في النمو الزمني. وعلى ذلك يكون هناك نموذجان معاصران مختلفان. أما ما هو موجود لدينا فليس أكثر من ركود حضاري لعدة قرون انفتح فجأة على عالم حديث ومتغير. في هذه الحالة لا يوجد أي نموذج يمكن اعتباره بخصوصية معاصرة. الخصوصية الحالية ما هي إلا ناتج ركود زمني وليس عن تطور باتجاه مغاير. إن عنصر الحركة الزمنية غير متوفر في هذه الخصوصية المزعومة. لقد توقف الزمن في مجتمعات العرب منذ قرون وتوقفت معه كل التطورات الاجتماعية. فهل ناتج هذا التوقف هو خصوصية يجب الحفاظ عليها؟ المحافظة هنا تعني الإصرار على توقف الزمن وبذلك يكون التوقف الزمني هو الخصوصية!
في مجتمعات ترى الخصوصية في توقف الزمن لا يمكن أن تفعل خطط التنمية فعلها فيها. وهذا ما كان وهذا ما يحدث. هذه المجتمعات تأكل نفسها بنفسها دون أن تتمكن من الوصول إلى حلول لهذا التدمير المستمر.
حتى عقد الخمسينيات من القرن الماضي كان الغرب يمثل الدول المتطورة اجتماعيا واقتصاديا وفي عقد الستينيات أخذت اليابان بالظهور لتكون قوة اقتصادية وعلمية منافسة. وفي عقد السبعينيات بدأت دول جنوب شرق آسيا بالظهور كقوة اقتصادية جديدة منافسة. بعد ذلك أخذت الصين بالظهور كقوة اقتصادية وعلمية منافسة. كل هذه النماذج لم تعش سجنا زمنيا، كالذي عاشه العرب والمسلمون ولعدة قرون وليست لديهم خصوصية يخافون عليها. لذا كانت نهضتها سلسة اجتماعية ولم تعان من رفض داخلي وانهيارات اجتماعية. الثروة النفطية التي تم اكتشافها خلال القرن الماضي أسهمت وبصورة كبيرة في استمرار وامتداد الخمول الثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية.
العالم منذ القرن العشرين بدء مرحلة التكنولوجيا والتي قادت إلى العولمة وبذلك أصبح العالم صغيرا، ولم يعد هناك انعزال فيه. الكل مرتبط مع الكل والاقتصاد مترابط مع التكنولوجيا والسياسة والمجتمع. في عالم بمثل هذا التعقيد لا مكان فيه للخمول الاجتماعي. أعضاء العالم الجديد يجب أن يكونوا مؤهلين للمشاركة في بناء الحضارة الإنسانية الجديدة. فهل المجتمعات العربية مؤهلة لأن تلعب دور الفاعل ولو بنسبة بسيطة في عالم العولمة والتكنولوجيا؟
مجتمعات العرب لم تتجاوز القبيلة بعد فكيف لها بالعولمة ولم تعرف من التكنولوجيا سوى استيراد أجهزتها. مجتمعاتنا بحاجة لإعادة تأهيل جذرية لتعرف عصرها وليس بناء على رمال متحركة يُسمى بخطط تنموية أو عمليات تجميل حضاري. إن الخارج من سجن الزمن لا بد من تأهيله قبل محاولة تطويره.