كتب: Mary Dejevsky

مع اقتراب موعد الانسحاب الأميركي من العراق، يستطيع الرئيس أوباما التباهي بأنه التزم بالوعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية وإعلان انتهاء المهمة، فربما تحقق إنجاز مهم بفضل عودة عشرات الآلاف من الجنود إلى ديارهم قبل عيد الميلاد، وتفكيك جميع البنى التحتية، ورحيل القوات من دون الشعور بالمهانة كتلك التي حصلت في سايغون، ويُفترض أن يكفي هذا الإنجاز لتسريع فوز باراك أوباما بولاية رئاسية ثانية.
لكن يترافق هذا النجاح مع تداعيات أخرى، فبالنسبة إلى الكثيرين ممن يعارضون حرب العراق في الولايات المتحدة وحول العالم، تسلط هذه النتيجة الضوء على الجنون الذي طبع عملية الغزو منذ تسع سنوات بأمرٍ من جورج بوش، ويبدو أن شعار ldquo;الحرب الاختياريةrdquo; (حيث كانت الأدلة مغلوطة، وكان الإخفاق في إدارة الصراع هائلاً، وكان سجل الضحايا فاضحاً) سيلازم ذلك العهد الرئاسي الفاشل بامتياز.
لكن عند النظر إلى الوضع بعد خمس أو عشر سنوات أو حتى عشرين سنة، لا بد من التساؤل: هل سيدوم هذا الحكم القاسي على عهد بوش حتى ذلك الوقت؟ وهل سيكون حكم التاريخ على حرب العراق شبيهاً بالحكم السلبي الذي أُطلق عليها اليوم؟ وهل ستبقى تلك الحرب (سواء كانت جيدة أو سيئة) الحدث الأبرز الذي يطبع عهد بوش الرئاسي؟ وهل سيذكر الجميع جورج بوش على أنه ذلك الجاهل الأخرق الذي أعلن ldquo;إنجاز المهمةrdquo; قبل أن تبدأ أسوأ فصول القتال؟
في جميع الأحوال، لا بد من الاعتراف بأن بوش، رغم جميع عيوبه، قد يكون محقاً في مسائل كثيرة، فلا شك أنه أخفق كثيراً، فقد اعترف شخصياً بأنه لم يبرع في التعامل مع أبسط الأمور وأنه كان أسوأ الحكّام عند مواجهة الأزمات.
بالغ بوش، مثل بقية الأميركيين، في ردة فعله عندما اعتبر اعتداءات 11 سبتمبر إعلاناً للحرب بدل النظر إليها كجرائم مشينة، ونتيجةً لذلك، تورط الأميركيون في صراع حمل نتائج عكسية في أفغانستان طوال عقد من الزمن. لقد كان بوش بطبيعته شخصاً متفائلاً جداً وكان يثق بمسار الأمور أكثر من اللزوم، فأقنع نفسه بأن العراقيين سيستقبلون القوات الأميركية بالورود وصدق الفكرة الخاطئة التي طرحها وزير دفاعه بأن قوةً أصغر حجماً وأكثر حيوية يمكن أن تسيطر على العراق.
لم يتخلَّ بوش عن خدمات آلان غرينسبان كرئيس للاحتياطي الفدرالي، وقد استند في قراره إلى اعتقاد خاطئ بأنه رجل بارع في تحقيق الإنجازات الاقتصادية بينما كان في الواقع مجرد خبير اقتصادي سبق أن استنزف جميع كفاءاته، فمن خلال التغاضي عن أعمال التعذيب، أو حتى السماح بارتكابها، قضى على المفهوم القائل إن الولايات المتحدة تتسم بقيادة أخلاقية، وقد ألحق الضرر نفسه بالدستور عندما أنشأ معتقل غوانتنامو بهدف تجاوز الصلاحيات الأميركية.
إنها لائحة طويلة من التهم المشينة، لكن في مجال المبادئ العامة والسياسات التي وضعها بوش على المدى الطويل، يبدو الآن أن تصرفاته قد تكون مبررة، فلننظر إلى وضع العراق مثلاً، فلا يمكن تأييد الحرب الاختيارية في أي وقت من الأوقات ولا في أي مكان (ولا حتى في ليبيا)، ولا شك أن شن حرب مماثلة (كما فعل بوش) هو ضرب من الجنون إلا في حال وجود تهديد عسكري مباشر على البلاد.
لكن في ما يخص قناعة بوش بأن الأشخاص المنتمين إلى ديانة أو ثقافة أخرى (يعني الإسلام في هذه الحالة) يشاركون الأميركيين قناعاتهم، أثبتت أحداث السنة الماضية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط أنه كان محقاً فعلاً، فبغض النظر عمّا سيحدث في المرحلة المقبلة، لم تحصل الانتفاضات في المنطقة على خلفية دينية، بل كانت عبارة عن نضال صادق كي يكسب الشعب حق المشاركة في حكم بلده وكي يحصل على العدالة ويتمتع بحياة أفضل.
لقد تبين أن تلك البلدان كانت تتوق فعلاً إلى تغيير أنظمتها، وبالتالي، يمكن أن نعتبر أن التدخل الأميركي في العراق أخر التغيير السياسي في العراق وفي أماكن أخرى، وذلك من خلال تلطيخ سمعة الأميركيين، وقد كان لا بد من مبادرة الصلح التي عرضها أوباما في القاهرة، قبل الانتفاضة المصرية ضد مبارك بثمانية عشر شهراً، من أجل تصحيح صورة النموذج الأميركي. لكن كانت غريزة بوش بشأن المعطيات القائمة صحيحة.
كذلك، نجح بوش في استباق الأمور أكثر من معظم نظرائه المعاصرين في مجال الطاقة، فتعرض بوش حين كان رئيساً لانتقادات من خصومه محلياً وخارجياً بسبب رفضه الأولي لبروتوكول كيوتو ثم بسبب دعمه للشركات التي تريد التنقيب عن النفط في منطقة محميّة من ألاسكا.
لكن من خلال التشديد على عدم مبالاة بوش بالشؤون البيئية، تجاهل هؤلاء الخصوم أنفسهم ناحية من سياسته المحلية التي تستحق الانتباه بالقدر نفسه، أي تصميمه على ضرورة أن تخفف الولايات المتحدة اتكالها على استيراد مصادر الطاقة. اعتبر الكثيرون أن إصرار بوش على ldquo;التنقيبrdquo; يعكس عدم ثقته بحركة الحفاظ على البيئة، مع أن أفكاره كانت تقدمية أكثر من معظم الحركات السائدة في الولايات المتحدة، فاعتبر آخرون أنه أصبح ldquo;رجل المشاريع النفطيةrdquo; من تكساس وأن كل ما تبقى له من مسيرته السياسية هو معارفه في هذا القطاع.
ربما تعكس هذه الانتقادات شيئاً من الواقع، لكن تتعلق أهم أفكار بوش بقناعته بأن السياسة الخارجية والحالة الاقتصادية في الولايات المتحدة بقيت محصورة بسبب اتكالها على استيراد الطاقة. كان الرؤساء السابقون (بدءاً من نيكسون) يطمحون إلى الأمر نفسه: ضمان الاكتفاء الذاتي الأميركي في مجال الطاقة، لكن سعى بوش إلى تحقيق ذلك الطموح بطريقة منهجية.
من المعروف أن نقل سياسة الطاقة الوطنية من الاستيراد إلى الإنتاج المحلي ليس عملية سهلة ولا سريعة في أي نظام اقتصادي، فكيف بالأحرى في نظام يعتمد على السوق الحرة مثل النظام الأميركي؟ لكن بفضل مجموعة من الحوافز التجارية والتحديثات التكنولوجية والقليل من الحظ (مثل اكتشاف رواسب جديدة وقابلة للاستغلال من الغاز الصخري)، تراجع اليوم اعتماد الولايات المتحدة على استيراد الطاقة إلى ما دون الخمسين في المئة. لا شك أن أوباما والرؤساء اللاحقين سيحصدون المكاسب السياسية، لكن كان جورج بوش هو من وضع أسس هذا المشروع.
بحلول عام 2020، يُعتقد أن الولايات المتحدة ستكون أكبر منتج للنفط والغاز في العالم (متفوقة على روسيا والمملكة العربية السعودية) مع استمرارها في استيراد النفط من كندا والمكسيك، وليس من الشرق الأوسط الكثير التقلبات. ولا شك أن هذا تحول محتمل بالغ الأهمية يمكن أن يغير السياسة الخارجية الأميركية ويلغي أي مبررات لمغامرات عسكرية شبيهة بما خاضته في حرب العراق. بعد مرور عشرين سنة، لن يكون العالم الإسلامي قد تغير فحسب، بل قد يتحول أيضاً تقدم الولايات المتحدة نحو الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة إلى حافز لولادة نظام سياسي-جغرافي جديد. وهكذا، تتقلص أهمية الأخطاء التي ارتُكبت في العراق، وتنشأ ضرورة الحكم على إرث جورج بوش من منظار مختلف.