ربما إن الكل منا سيسأل الآخر مستقبلاً أين كان مساء الجمعة 11 فبراير/ شباط 2011 عندما قرأ نائب الرئيس المصري عمر سليمان بياناً مقتضباً جداً على التلفزيون قال فيه: laquo;أيها المواطنون، في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد، والله الموفق والمستعانraquo;.

تحقق حلم مصر، وتحقق حلم العرب، واستطاع شباب مصر أن يغير سياسة العالم إلى غير رجعة. لقد قيل لنا إن كل شيء انتهى. فأوروبا الشرقية التي تحررت وانطلقت نحو الديمقراطية استطاعت فعل ذلك لأنه كان لديها مجتمع مدني قوي، وكانت أميركا تساند موجة التغيير هناك في مطلع التسعينيات من القرن الماضي... أما الأميركان فيساندون الأمن والاستقرار في منطقتنا على حساب الديمقراطية، وأما المجتمع المدني فتمت مصادرته، واستبدل بجمعيات وهمية تشارك في قمع المجتمع.

قيل لنا إن أميركا اللاتينية تحولت إلى الديمقراطية لأن الأحزاب والحركات اليسارية والنقابية التي ملأت السجون استطاعت إجراء مراجعة إلى نهجها، وتوصلت إلى تفاهمات مع من يؤثر في بلدانهم، وخرجوا من السجون وشاركوا في الانتخابات وتسلموا زمام الأمور وتفاهموا مع مؤسسات الجيش ومع القوى العالمية المؤثرة... أما في منطقتنا فقد تم القضاء على الأحزاب ولم يبقَ سوى بعض كبار السن أو من تم تركيعهم ممن يحملون مسميات حزبية، ولكنهم أقلية آيلة إلى الانقراض.

لقد قيل لنا إن كوريا الجنوبية تمكنت من الانتقال إلى الديمقراطية لأنه لا توجد في محيطها laquo;إسرائيلraquo; التي تأسر السياسة الأميركية، وليس لديها laquo;نفطraquo; يأسرها لاستراتيجيات خارجة عن إرادتها... أما نحن فلدينا إسرائيل ولدينا النفط، وهذان أهم بالنسبة للسياسة الاستراتيجية الأميركية وغير الأميركية من كل شيء، ولذا فلا داعي لأن نحلم بنظم ديمقراطية.

لقد قيل لنا الكثير، وفقدت أكثر مجتمعاتنا الأمل في المستقبل، حتى انبلج صبح جديد مع انتصار ثورة تونس في 14 يناير/ كانون الثاني 2011... وبعد ذلك تحرك شباب مصر في 25 يناير 2011، وانتصر في 11 فبراير 2011.

شباب مصر انطلق من الإنترنت بعد أن حُرم من مؤسسات المجتمع المدني، وحُرم من فرصة المشاركة في الشأن السياسي بشكل نزيه، وحُرم من التعبير عن رأيه... ولذا هُرِعَ هذا الشباب الحر إلى أدوات عصره للتعبير عن رأيه، أهمها laquo;فيسبوكraquo;، وlaquo;تويترraquo;، بصورة سلمية متطورة حضارية.

لقد فاز هؤلاء الشباب بقلوب وعقول ملايين المصريين والعرب، وأبهروا شعوب العالم في كل بقاعه... وغيروا معادلات laquo;الأمر الواقعraquo;، وحققوا النصر الذي كان ُنظر إليه على أنه من رابع المستحيلات، وجعلوا كل مصري وكل عربي يرفع رأسه عالياً في كل أرجاء الدنيا، وأجبروا كل القوى العالمية التي فضلت الأمن والاستقرار (من خلال الاستبداد والبطش والفساد) على الاعتراف بالخطأ وتصحيح المواقف والوقوف إلى جانب الشعب المصري الأبي الذي أعطى العالم دروساً ذهبية في صناعة التاريخ.

أنتم يا شباب مصر تصنعون الحدث وتمسكون بزمام الأمور وتشكلون المستقبل الجميل الذي يسع الجميع من خلال ديمقراطية حقيقية، بل ورائدة في المسيرة البشرية. أنتم منارة للحرية والديمقراطية في مصر والوطن العربي وفي كل أرجاء العالم... أنتم قلتم لنا إن المصالح ليست فوق المبادئ، وأنتم أثلجتم صدورنا، وأنتم الأغنياء بالكرامة والأقوياء في الحكمة، وأنتم أفضل من يحقق لمصر ولمنطقتنا أمنها واستقرارها من دون المساومة على كرامة الإنسان التي نالها من خالقه.
في ظلال ثورة مصر...

laquo;منتدى التنمية الخليجيraquo; انتعش في ظلال مصر أمس. فهذا المنتدى يجمع مفكري دول الخليج العربي سنوياً في البحرين في مثل هذه الفترة في كل عام، وذلك لتداول الأفكار التنويرية التي تهتم بها النخبة في المنطقة، والاجتماع هذا العام ما بين (10 و11 فبراير/ شباط 2011) تزامن مع ثورة الشباب في مصر... ورغم أن أجندة المنتدى قد أعدت قبل فترة، ولكن مصر وما يجري فيها فرض نفسه على كل محفل، ولذا فقد طالب الحاضرون في آخر جلسة بتخصيص فترة نقاشية للشأن المصري، لأنه ليس شأناً حصرياً، بل إنه عربي وإفريقي وإسلامي وعالمي... بمعنى أنه يؤثر في كل هذه العوالم في آن واحد .

ممثلون من laquo;النخبة الخليجيةraquo; طرحوا أمس عدة أسباب لثورة شباب مصر، منها أن التزاوج بين السلطة والمال أدى إلى فساد استشرى طال كل مجالات الحياة، وفقد المواطن الأمل في المستقبل، بحيث إن الجامعي ومن كان مفترضاً أن يكون جزءاً من الطبقة الوسطى أصبح مسحوقاً من الناحية المادية، ولايكترث أحد برأيه وإرادته، بل وتم تزييف إرادة الشعب من خلال مجالس مزيفة، وتم تسليط الأجهزة الأمنية عبر قبضة حديدية خانقة. هذه المنظومة دعمتها تحالفات استفادت من الفساد وطرحت نفسها على مستوى العالم بأنها تمثل الأمن والاستقرار وأن البديل عنها لا شيء سوى laquo;إخوان مسلمينraquo; أو تنظيم laquo;قاعدةraquo; أو مجموعة من المتطرفين المعادين للغرب.

النمط الاستبدادي كتب وفرض قوانين تكبل المجتمع، وبالتالي فقد أصبح تطبيق مفهوم حكم القانون ودولة القانون يعني القمع والظلم وإهلاك الحرث والنسل... لذا فإن ثورة شباب مصر طرحت مفهوم laquo;قانونية الدولةraquo; بدلاً من laquo;دولة القانونraquo;، بمعنى أن الدولة ومؤسساتها يجب أن تكون شرعية من خلال خضوعها لإرادة الشعب، وأن الدولة يجب أن تخشى من محاسبة المجتمع، وليس العكس.

الشرق الأوسط دخل فعلاً مرحلة جديدة تنطلق بقوة من مصر، وهذا تأكيد للمكانة التاريخية التي احتلتها مصر على مر التاريخ.

لو عدنا إلى التاريخ قليلاً، فسنجد أن التحديث قد بدأ فعلاً في مصر، وتشكيل ما يسمى بمنطقة laquo;الشرق الأوسطraquo; ارتبط بغزو نابليون إلى مصر العام 1798م... وفي مصر انطلقت المفاهيم الدستورية والليبرالية تحت مظلة الوضع القائم في مطلع القرن العشرين... وفي مصر انطلقت حركة الإخوان المسلمين التي دعت إلى أسلمة المجتمع في عشرينات القرن الماضي، وفي مصر انطلقت حركة الضباط الأحرار في خمسينيات القرن الماضي... وفي سجون مصر انطلقت الأفكار الداعية إلى التكفير والجهاد والعنف وذلك في ستينيات القرن الماضي، وفي مصر أقيم أنموذج الدولة الاستبدادية التي لا تعترف بقيمة المواطنين في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين... وفي مصر انطلقت ثورة شبابية في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وطرحت نهجاً مدنياً تعددياً متطوراً يتفوق على كل من اعتقد أن الإنسان العربي قد أصبح صفراً على الشمال... فتحية لشباب مصر الذي غير وجه العالم.

وليد نويهض

انتفاضة يناير ومخاطر ما بعد مبارك

الوسط

غياب الرئيس حسني مبارك نهائياً عن المشهد السياسي في مصر وضع الانتفاضة الشعبية في خيارات صعبة تتطلب عقلية تسووية في مرحلة انتقالية بالغة الدقة. فالفترة الفاصلة بين استقالة الرئيس وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد التي تقتضي الإشراف على التعديلات الدستورية وترتيب انتخابات رئاسية ومحاسبة الفاسدين وتسليم السلطة الى الرئيس المنتخب في سبتمبر/ أيلول المقبل تحتاج الى حذر وانتباه.

التفويض يعني نقل الصلاحيات مؤقتا في إطار وصاية الجيش. وهذا الأمر قد يؤسس اشكالات دستورية تؤدي لاحقاً الى نوع من ازدواجية السلطة بين وظائف المرحلة الانتقالية ودور مؤسسة الجيش مستقبلاً. وفي حال تطورت ازدواجية الصلاحيات بين سلطة تنفيذية دائمة وسلطة رقابية منوط لها العمل على رعاية المرحلة الانتقالية والاشراف على تنفيذ توصيات من بينها إلغاء قانون الطوارئ تصبح الدولة معرضة للانقسام السياسي الهرمي بين وظائف المؤسسات.

المرحلة الانتقالية دخلت منذ استقالة مبارك منطقة خطرة قد تشهد تداعيات في حال فشلت المفاوضات الجارية مع لجنة الحكماء التي تمثل تيارات الانتفاضة وأطيافها. وخطورة المسألة تكمن في ان قوى الاعتراض تعاني بدورها من مشكلة فوضى البدائل وعدم قدرة أطرافها على تحديد خطة عمل مبرمجة. واختلاف قوى الاعتراض على البديل في المرحلة الانتقالية وحقبة laquo;ما بعد مباركraquo; قد يعطي ذريعة للقوات المسلحة برفع درجة تدخلها في المسار السياسي العام.

حتى الآن لاتزال المؤسسة العسكرية في الوسط. فهي من جانب تقوم بواجبها الرسمي في حراسة الدولة، وهي أيضاً تؤكد في جانب آخر احترامها لطلبات الشعب بوصفها تلعب دور القوة الضامنة لمسار التحول السياسي السلمي من حقبة مبارك إلى ما بعده.

موقف عدم الانحياز الايجابي الذي مارسته قيادة الجيش حافظ خلال فترة الأسبوعين الماضيين على استقرار مؤسسات الدولة تحت سقف الدستور ومنع الانتفاضة من الانجراف إلى الفوضى، الأمر الذي ساعد على ضبط التوازن وعدم الانزلاق نحو التصادم العنيف. وساهم دور المؤسسات العسكرية في الضغط المعنوي على الرئاسة ومنعها من الانجرار نحو خط التصدي وجعلها أكثر تقبلاً لمبدأ التراجع ومن ثم التنازل خطوة خطوة وصولاً إلى التخلي عن المنصب.

غياب الرئيس مبارك نهائياً عن المشهد وضع المؤسسة العسكرية والانتفاضة امام مسئوليات خطيرة في المرحلة الفاصلة بين تفويض الصلاحيات وضمان الاشراف على الاصلاحات ونقل السلطة سلمياً الى رئيس منتخب. فالغياب يعني ان المواجهة أصبحت مباشرة ولم تعد مداورة كما كان امرها خلال الفترة التي ابتدأت في 25 يناير وانتهت في 11 فبراير. والشارع الذي اتخذ من الجيش مظلة للحماية وضمانة للاستقرار والضغط على الرئيس بات الآن في حال من الانكشاف إذا لم تتوصل قواه الحزبية واطيافه الشبابية الى ترتيب خطة عمل تبرمج المطالب في سياق البدء بالخروج من الميادين وترك الأمور بعهدة هيئات تتابع تنفيذ الوعود التي اقرها الرئيس قبل استقالته وفوض المجلس الأعلى بملاحقتها.

احتمال انتقال الجيش من موقع الوسط (الحياد الايجابي) الى موقف أكثر تشدداً من الانتفاضة مسألة واردة مع ما تتضمنه من مضاعفات ومخاطر تهدد البلاد بالانقسام السياسي. وهذا الاحتمال لا يمكن استبعاده نهائياً في حال استمرت التظاهرات المليونية وتعرضت الحياة العامة للاضرار سواء على مستوى قطاعات الدولة أو على مستوى الأنشطة الاقتصادية الخاصة.

الصورة بعد صلاة الجمعة (أمس) دخلت منذ اليوم في الوان جديدة ومغايرة وهي قد تؤثر في المشهد السياسي ويمكن ان تؤدي إلى تبدل نسبي في موقف المؤسسة العسكرية وتعاملها السلمي والهادئ مع الانتفاضة. وهذا الأمر لا يمكن إسقاطه من الاحتمالات المفترضة لأن طبيعة المواجهة أخذت بالتغير بعد غياب الرئيس عن المشهد ورميه كرة التغيير في ملعب المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

لجوء الرئيس إلى الاستقالة وتحميل الجيش مسئولية الاشراف على ترتيب خطوات المرحلة الانتقالية وضع المؤسسة العسكرية في موقع التفاوض مع قوى الانتفاضة التي تعاني من فوضى البدائل وعدم وجود هيئة مركزية تمتلك صلاحيات التحدث باسم كل الأحزاب والأطياف.

فوضى البدائل مشكلة سياسية تواجهها قوى الاعتراض، وهي على رغم عفويتها وطبيعيتها بسبب ظروف الانتفاضة ودوا فعها وعواملها الانفعالية والقهرية قد تتحول إلى أزمة ثقة تعطل إمكانات التفاوض مع سلطة تعاني بدورها من ازدواجية.

احتمال انفراط الثقة وتفاقم الأزمة اخطر ما يواجه المرحلة الانتقالية لأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بات يمتلك صلاحيات تتجاوز التفاهمات التي توصل إليها نائب الرئيس المفوض وتتخطى الحدود المرسومة التي وضع الرئيس المستقيل خطوطها العريضة في خطاباته الوداعية الثلاثة.

قرار التصعيد أو التهدئة أصبح الآن في عهدة ميدان التحرير وشوارع القاهرة والمدن المصرية لكون المسئولية انتقلت كلياً على مستوى رأس السلطة وبات على المؤسسة العسكرية متابعة ما توصلت اليه الأطراف المتفاوضة من تفاهمات وضمانات. وهذه الحقبة تتطلب الكثير من الحذر والانتباه وتحتاج فعلاً إلى عقلية تسووية قادرة على درس الخطوات ومراجعة كل القراءات للمرحلة السابقة بوصفها أصبحت من الماضي.

حقبة مبارك انتهت فعلياً بعد الاستقالة، وترحيله عن شرم الشيخ مسألة وقت. وهذا بالضبط ما يجب أن تدركه قوى الاعتراض وتبدأ بالتعامل معه كأمر واقع. ولكن إذا استمرت رؤوس الانتفاضة التعاطي مع التطورات في إطار تكرار شعار إسقاط النظام يصبح احتمال التأزم الطرف الأقوى في معادلة القوة وتنفتح الترجيحات على مضاعفات وتداعيات غير محمودة.

المرحلة الانتقالية دخلت منذ اليوم منطقة خطرة لا تستبعد حصول مواجهات وتصادمات كما حصل أمس وأمس الأول في السويس وبورسعيد والإسكندرية والعريش ومدينة الخارجة في محافظة الوادي الجديد. فالجيش الذي أعلن في البيان رقم 2، وقبل توليه السلطة، حرصه على حماية الممتلكات وضمان الاستقرار وعودة الحياة إلى طبيعتها داعياً الناس إلى التجاوب مع سلمية الفترة الفاصلة بين التسلم والتسليم كلها اشارات تدل على احتمال انتقال المجلس الأعلى للقوات المسلحة من موقف الحياد الايجابي إلى موقع التدخل السياسي. الجيش اليوم أصبح في الواجهة ولم يعد خلف الستار ويقوم بدور الوسيط كما كان دوره أمس، فهو أمام خيارات صعبة: المواجهة مع الشارع، أو الانقلاب على الدستور ومصادرة السلطة، أو قيامه بالمهمة الموكولة وتسليم السلطة لقوة منتخبة.


تحية لشباب مصر الذي غير وجه العالم

منصور الجمري

الوسط