علي جرادات

في باطن الخطوات السياسة، وبعيداً من ظاهرها الحاجب له، ينطوي تكريم أسماء الراحلين من السياسيين على تبني المُكرم، أو عدم معارضته، لسياستهم أو لجوهرها على الأقل . فهل هذا هو ما ينطوي عليه، ضمناً، وبصورة غير مباشرة، تكريم الرئيس المصري، مرسي، (وبالتالي raquo;الإخوانlaquo;)، للرئيس المصري الأسبق، السادات، في خطابه لمناسبة الذكرى 39 لحرب أكتوبر؟ رب قائل إن السؤال أعلاه ينطوي على تعسف، بحسبان أن تكريم السادات هو ليس إلا تقديراً لقراره شن تلك الحرب . كان يمكن للمرء أن يتفهم هذا التفسير، بل، أن يوافق عليه، لكن التوقيت السياسي للتكريم يثير أسئلة محيرة تجيز تجاوز شكله، إلى البحث في مضمون مفارقاته التي تشي بوظيفته السياسية، ولعل أهم هذه المفارقات، وأكثرها جوهرية:

أولاً: إن تكريم السادات جاء على يد رئيس السلطة التنفيذية للدولة المصرية، بينما كان الأجدر، (برأيي)، أن يناط أمر البت فيه بالسلطة التشريعية، مجلس الشعب، المفترض إعادة انتخابه قريباً، خاصة في ظل عدم توافر إجماع وطني على هذا التكريم الذي لم يقدم عليه حتى الرئيس المصري السابق، مبارك، لمعرفته بمقدار ما يثيره من إشكالات، وجدل سياسي، ليس على الصعيد المصري فحسب، بل، على الصعيد العربي أيضاً .

ثانياً: اقتران تكريم القائد العسكري اللامع، والمُعْتَبَر، (بما يشبه الإجماع)، أحد الأبطال الفعليين لحرب أكتوبر ،1973 الفريق سعد الدين الشاذلي، بتكريم السادات الذي يتحمّل، (بلا تجنٍ)، المسؤولية السياسية عن تبديد النصر العسكري الأولي للجيشين المصري والسوري، وعن تحويله إلى هزيمة سياسية أنجبت صفقة raquo;معاهدة كامب ديفيد للسلامlaquo; التي مازال شعب مصر وشعوب الأمة، والشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بالذات، تعيش انعكاساتها وتداعياتها وتأثيراتها السلبية، وما المعضلتان السياسيتان الراهنتان في سيناء وغزة سوى أبرز، وأهم، تجلياتها . هذا فضلاً عن أن الرجليْن المكرميْن كانا على طرفي نقيض، وأن خلافهما حيال تلك الحرب ومجرياتها وملابساتها ونتائجها العسكرية والسياسية، لم يكن مجرد خلاف بين شخصين، بل، كان تعبيراً عن الخلاف الفكري والسياسي الأشمل بين عهديْ نظام ما بعد ثورة 23 يوليو 1952: عهد الرئيس عبد الناصر، وعهد الرئيسين السادات ومبارك .

ثالثاً: إن تكريم السادات جاء من رئيس تسلم سلطة الدولة المصرية باسم انتفاضة شعبية أطاحت سلطة الرئيس، مبارك الذي لا يختلف اثنان على اعتبار سياسته امتداداً لسياسة السادات، وطنياً وقومياً واجتماعياً .

رابعاً: إن تكريم السادات جاء من رئيس تولى سلطة الدولة المصرية بوصفه ممثلاً لجماعة الإخوان المسلمين التي طالما هاجمت إبرام السادات raquo;معاهدة كامب ديفيد للسلامlaquo; التي لم يفعل خلفه، مبارك، سوى مواصلة إلزام مصر الدولة والشعب بشروطها المجحفة، وطنياً وقومياً، بل، وطالما كان مطلب تخليص مصر من التزاماتها المذلة أحد أهم أوراق raquo;الإخوانlaquo; لبلوغ السلطة . خامساً: إن تكريم الرئيس مرسي، وraquo;الإخوانlaquo;، للسادات، جاء مترافقاً، (كي لا نقول مرادفاً)، لتجاهلهم دور الرئيس عبد الناصر الذي صار معروفاً أنه مَن قرر إعادة بناء الجيش المصري بعد هزيمة العام ،1967 وأنه مَن قرر شن حرب الاستنزاف، (أقسى حروب raquo;إسرائيلlaquo; باعتراف قادتها)، وأنه مَن بدأ التحضير لحرب قادمة وصاغ خطتها، (غرانيت)، وفقاً لشهادة الفريق الشاذلي نفسه .

لذلك، وعليه، فإنه ليس في منزلة التعسف القول: إن تكريم raquo;الإخوانlaquo; للسادات ينطوي على رسالة سياسية أرادوا إيصالها إلى أكثر من جهة، وللولايات المتحدة وraquo;إسرائيلlaquo; بالذات، جوهرها تأكيد أنهم ليسوا ضد، بل مع، ما اختطه السادات من سياسة لإدارة الصراع العربي raquo;الإسرائيليlaquo;، وجوهره القضية الفلسطينية، وأنهم ليسوا ضد، بل مع، ما اختطه من سياسة اجتماعية اقتصادية، (الانفتاح)، المرادفة لإبقاء مصر في فلك الولايات المتحدة والتبعية لها التي قدم العهد الناصري، (raquo;فوبياlaquo;raquo;الإخوانlaquo;)، صيغة للفكاك منها عبر مساهمته في العام 1955 في تأسيس، والانخراط في، raquo;مشروع باندونغlaquo;، (عدم الانحياز)، الذي فك ارتباط العديد من دول raquo;العالم الثالثlaquo; بدول الاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ومكنها من حماية استقلالها، ومن صون سيادتها، ومن تحقيق مستويات من التنمية المستقلة لمجتمعاتها . كان هذا مشروعاً ضرورياً للدول raquo;الناميةlaquo;، ومنها مصر، حتى قبل دخول الاقتصادات الغربية مرحلة الليبرالية الجديدة، فما بالك بعد أن دخلتها، (في نهاية سبعينات القرن المنصرم)، وبعد أن دخلت أكثر أطوارها توحشاً، (في نهاية ثمانينات القرن الماضي)، بانفراد الولايات المتحدة في السيطرة على العالم والتحكم فيه؟

على أية حال، لو كان تكريم raquo;الإخوانlaquo; للسادات مجرد تعبيرٍ عن تقديرٍ مطلوب لرئيس اتخذ قرار حرب أكتوبر المجيدة، لكان الأولى بهم أن يكرموا أيضاً الرئيس عبد الناصر الذي أعد الخطة الأولى لهذه الحرب، أما وأنهم لم يفعلوا ذلك، بل، وما انفكوا ماضون في عدائهم الأيديولوجي، (غير العلمي)، للعهد الناصري، الحدث الأهم في تاريخ مصر المعاصر، فإن من الموضوعية بمكان استنتاج أن تكريم raquo;الإخوانlaquo; للسادات إنما يشي بتبنيهم سياسته وخياراتها، لا في إدارة الصراع العربي raquo;الإسرائيليlaquo; فحسب، بل، وفي ربط الاقتصاد المصري باقتصادات الليبرالية الجديدة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، أيضاً، على مابين الأمرين من ترابط . لذلك فإن المرء ليس بحاجة إلى أن يكون ناصرياً لكي يرفض الهجوم raquo;الإخوانيlaquo;، raquo;الأيديولوجيlaquo; على العهد الناصري، ولكي يتمسك بالنقد الموضوعي النزيه الهادف إلى التفكير في تجربته، وتجديدها والبناء عليها، بوصفها جزءاً أصيلاً من التاريخ السياسي المعاصر لمصر والأمة، حقق إنجازات وطنية وقومية واجتماعية كبيرة ليس في مصلحة مصر والأمة أن يستمر raquo;الإخوانlaquo; في محاولة مسحها من التاريخ، بتبني سياسة مَن انقلب عليها، السادات، الذي، وإن كان يستحق التكريم لتجرئه على قرار حرب أكتوبر، فإن سياسته بعدها كانت الفاتحة لما يعيشه الشعب المصري اليوم من مشكلات سياسية اقتصادية مجتمعية كبيرة ومعقدة .