باريس

زيارة الرئيس الفرنسي إلى أفريقيا، ومنح نوبل السلام للاتحاد الأوروبي، واستمرار المأساة السورية، ثلاثة موضوعات استقطبت اهتمام الصحافة الفرنسية.

هولاند وأفريقيا

اعتبرت صحيفة لوموند في تغطيتها لخطاب فرانسوا هولاند أمام البرلمان السنغالي أول من أمس الجمعة، أن مؤدى الرسالة المتضمنة في كلامه هو أن عهد سياسة quot;فرانس- آفريكquot; قد انتهى وانقضى، وأن هنالك اليوم عهداً جديداً في العلاقات بين فرنسا وأفريقيا سيقوم على أساس الشراكة والتعاون والاحترام المتبادل والتضامن. ويشير مصطلح quot;فرانس- آفريكquot; في الإعلام الفرنسي عادة إلى تلك الحزمة السلبية من سياسات التدخل في الشؤون الداخلية من خلال شبكات معقدة من لوبيهات المصالح وآليات التأثير ومراكز القوى الفرنسية المتنفذة في باريس من جهة، والتي لا تتوقف عن فرض أجنداتها وإرادتها على النظم الأفريقية في مستعمرات فرنسا السابقة. وقد ظلت تلك السياسات دوماً محل نقد في خطابة اليسار الفرنسي، وبعض العواصم الأفريقية أيضاً. ولذلك لم يتردد هولاند في كلامه أمام المشرعين السنغاليين بدكار أول من أمس في التأكيد بعبارات واضحة على أن سياسة بلاده في العهد الجديد ستقوم على محددات واضحة في تعاملها مع الدول الأفريقية، وفي هذا المقام شدد على أن quot;زمن سياسة laquo;فرانس- آفريكraquo; انتهى: فهنالك اليوم فرنسا، وهنالك أفريقيا، وهنالك الشراكة بين الطرفين، وفق علاقات مبنية على أسس الاحترام، والوضوح والمكاشفة، والتضامنquot;.

ومضى الرئيس الفرنسي مفصلاً في توجهات سياسته الجديدة تجاه القارة السمراء، وهي سياسة يتوقع أن يزيدها توضيحاً في مشاركته الحالية بالقمة الفرانكوفونية بالعاصمة الكونجولية كينشاسا، قائلاً: quot;لم آتِ إلى أفريقيا لكي أفرض نموذجاً معيناً، ولا لإعطاء الدروس الأخلاقية. إنني أعتبر الأفارقة شركاء وأصدقاء. والصداقة تترتب عليها واجبات، أولها الصدق والمصارحة. ولذا فإن على كل منا مكاشفة الآخر دون تدخل في شؤونه، ولكن بالمطالبةquot;. وفي استقبال رسالة هولاند وصفت الصحيفة رد فعل المشرعين السنغاليين بأنه كان حماسياً وإيجابياً، حيث قاطعوا خطاب الرئيس الفرنسي بالتصفيق مرات عديدة، وخاصة أنه تعمد الحديث عن سنغال باعتبارها نموذج نجاح ديمقراطي بالنسبة لبقية القارة. وفي هذا المقام قال هولاند إن quot;الرؤساء الأوائل الثلاثة للسنغال لم يترددوا، على رغم الاختلافات، في تسليم مشعل المسيرة بطريقة سلمية لمن خلفوهم في المنصب، وهو ما سمح لبلادكم بعمليات انتقال سلطة مأمونة دون تمزق صفوفquot;. وكان هولاند يشير هنا إلى انتخاب الرئيس السنغالي الحالي quot;ماكي صالquot; في مارس الماضي بطريقة ديمقراطية، وتسليم الرئيس السابق عبدالله واد بنتيجة الاقتراع. وقبل ذلك باثني عشر عاماً عمل عبده ضيوف الشيء نفسه بتسليم السلطة لواد، بعد أن كان قد تسلمها هو أيضاً بطريقة سلمية من سنغور أول رئيس لسنغال بعد الاستقلال.

وفي المجمل فقد نجح هولاند في الاختبار السنغالي، حيث حرص على استدعاء ذكرى الجنود السنغاليين الذين سقطوا في الحربين العالميتين دفاعاً عن فرنسا، كما حرص على أن تكون ضمن أجندته زيارة quot;بيت الرقيقquot; بجزيرة quot;غوريquot; على ساحل العاصمة دكار، لإحياء ذكرى ضحايا العبودية. وأهم من هذا كله أنه تجنب خلال خطابه أمام البرلمان، وفي المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس السنغالي، الوقوع في هفوات كتلك التي وقع فيها ساركوزي خلال زيارته لدكار قبل خمس سنوات، حين تحدث بشكل أخرق عن quot;الإنسان الأفريقي الذي لم يدخل التاريخ كثيراًquot;، وعن quot;مأساة أفريقياquot;، وغير ذلك من عبارات غير مناسبة.

نوبل الاتحاد الأوروبي

تساءل الكاتب إيف تريار في افتتاحية لصحيفة لوفيغارو عن مبررات منح جائزة نوبل السلام للاتحاد الأوروبي، لماذا وبناء على أي أساس؟ مؤكداً أن أقل ما يمكن أن يوصف به قرار من هذا القبيل هو كونه مفاجئاً، ومثيراً لعلامات الاستفهام. ففي حين يدفع رجال ونساء كثيرون أرواحهم في مناطق خطيرة من العالم في سبيل تحقيق السلام وحل الصراعات الدموية، ويعملون جاهدين لتحقيق هذا الهدف النبيل، وبعيداً عن الدعاية والصخب الإعلامي، في المقابل لم تظهر الدبلوماسية الأوروبية لامعة أو ناجحة إلا في حالات نادرة للغاية. وإذا تحدثنا عن الشرق الأوسط أو أفريقيا أو حتى على حدودها القريبة تواجه الدبلوماسية الأوروبية مصاعب جمة في الحديث بصوت واحد، فمصالح برلين وتوجهاتها مثلاً ليست بالضرورة متطابقة مع مواقف وتوجهات باريس، ونادراً ما تتحدث لندن نفس اللغة التي تتحدثها مدريد. وأكثر من هذا لا يمكن القول إن تعيين كاثرين آشتون في سنة 2009 كممثلة عليا للاتحاد في مجال الشؤون الخارجية قد أدى إلى تحسين الوضع. إذ من يشعر أساساً بتحركاتها؟

ومن المعروف عن جائزة نوبل للسلام خاصة أن لها اختياراتها المثيرة للأسئلة وهذه ظاهرة قديمة منذ انطلاق هذه الجوائز سنة 1901. والكل يتذكر الآن منح نوبل السلام لباراك أوباما قبل ثلاث سنوات، في لحظة كان قد دخل فيها للتو إلى البيت الأبيض. ولو جرت الأمور وفق منطق آخر فلربما كان الأوروبيون يفضلون أن تمنح لهم جائزة نوبل في الاقتصاد، لكي تكون في ذلك إشارة، على الأقل، إلى أن جهودهم الرامية للخروج من دوامة الأزمة المالية تسير في الاتجاه الصحيح.

ومع هذا فلا أحد ينفي كون مختلف مناطق العالم تنظر باهتمام وتقدير إلى تجربة الاتحاد الأوروبي. فهذا الاتحاد يبقى في النهاية فضاء موحداً وتجربة باهرة وعامرة بروح الحوار والتفاهم والتعاون، والقدرة على صناعة الثروة حتى لو كانت الرفاهية قد تراجعت بعض الشيء. وكذلك من حق الأوروبيين أن يقدروا أيضاً هذه الشهادة التي جاءتهم من أكاديمية quot;أوسلوquot;، وخاصة أنها آتية من عاصمة رفضت مرتين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وأكثر من هذا لا يمكن أيضاً إنكار الدور التاريخي الذي لعبه الاتحاد الأوروبي الذي تحل قريباً الذكرى الخمسون لتوقيع بعض أهم اتفاقاته المؤسسة في تحويل العداوة التاريخية بين ألمانيا وفرنسا إلى تعاون وشراكة واتحاد.

المأساة السورية

في افتتاحية لصحيفة ليبراسيون استعرض الكاتب إيف لاكوست بعض مسارات مخاض الأزمة السورية المزمنة مذكراً بأن أعمال الاحتجاج كانت قد بدأت سلمية في أواخر مارس بمنطقة درعا، وقد قمعها النظام بطريقة وحشية ودموية، مع أن الشبان المحتجين فيها لم يزيدوا على الهتاف بعبارات مستمدة من الثورتين التونسية والمصرية حيث كانوا يرددون quot;ارحل.. ارحلquot; قاصدين بشارالأسد، ظانين أن نظام دمشق سيتصرف كما تصرف نظاما تونس والقاهرة بالتنحي عن السلطة، في نهاية المطاف. وقد أطلق الإعلام الغربي على تلك التحولات التي عرفتها دول شمال أفريقيا اسم quot;الربيع العربيquot;، وخاصة أن الجيشين التونسي والمصري تفاعلا في النهاية مع مطالب المحتجين وامتنعا عن اقتراف حمامات دم بحق المدنيين العزل. وقد عول شبان درعا على أن جيش بلادهم سيتصرف أيضاً بطريقة مشابهة. ولكن فظاعة القمع في درعا هي ما استجر تمدد الانتفاضة السورية إلى حمص وغيرها من محافظات سورية، وكان لافتاً أن ممارسات القمع اتسعت أيضاً واكتست طابعاً أكثر وحشية مع تمدد الانتفاضة. في حين أثبت الأسد فشله في فهم حجم المطالبات الشعبية، حين ظل يردد الوعود بالإصلاح بالأقوال في حين يواصل القمع والعنف بالأفعال. وبسرعة تحولت الانتفاضة إلى حرب أهلية، ازداد تعقيدها هي أيضاً بشكل خطير. ومع الطابع الطائفي للصراع، إلا أن هنالك فئات تبدو أقل انخراطاً فيه مثل الدروز، وفي دمشق يبدو المسيحيون أيضاً في موقف مشابه. هذا في حين يستغل الأكراد في الشمال انكفاء جيش النظام لتوسيع حالة استقلال ذاتي يعملون على ترسيخها. أما العلويون فيدعمون النظام في الغالب، على رغم معارضة بعض العائلات المنافسة لعائلة الأسد. ومع تفاقم الحرب الأهلية، وجنون القوة الذي يمارسه النظام بحق المدنيين، يمكن القول إن الربيع العربي دخل مرحلة المأساة، يقول الكاتب، مع كل ما قد يترتب على ذلك من تداعيات إقليمية وعالمية، يمكن أن تتسع مع مرور الوقت.

إعداد: حسن ولد المختار