علي سالم

إليك هذه اللقطة التي لا شك أنك رأيتها من قبل: أسرة تزور أسرة أخرى، الأسرة المضيفة لديها طفل صغير، في العادة هو لطيف وهادئ. في لحظة يتحول هذا الطفل إلى شيطان صغير يزعج كل من في البيت، ولو كانت الأسرة الزائرة معها أطفال، فعلى الفور سيشعل معركة معهم، سيضربهم ويشد شعورهم ويخطف لعبهم، يحدث كل ذلك بينما صيحات الأم ترتفع كل لحظة محذرة ومنذرة وأحيانا متوسلة، غير أنه سيستمر في إزعاج كل من في البيت إلى أن يصل فيها إلى الدرجة التي يرغم فيها الأم على أن تعامله بعنف فينفجر باكيا ويختفي في غرفته.. هو طفل مزعج، ولكن لماذا اختار هذا الوقت ليمارس فيه إزعاج الآخرين؟ الواقع هو أنه شعر بالضيق الشديد عندما وجد نفسه فجأة ليس مركزا للاهتمام، فكرته عن الكون حوله أنه مركز هذا الكون، وأنه المخلوق الوحيد الذي يجب أن تهتم به بقية المخلوقات. وعندما اهتمت أسرته، وهي تمثل العالم أو الكون، بالأسرة الزائرة أحس فجأة بالجوع إلى الاهتمام والاعتراف، ولأنه لم يتعلم بعد وسيلة يحصل بها على كليهما بطريقة مقبولة من الآخرين، لذلك يلجأ للعدوان إلى أن يكتشف فجأة مع عنف الأم المفاجئ أن ما يسببه من إزعاج لم يوصله إلى هدفه بل تسبب في عقابه.

هل ممكن أن يكبر هذا الطفل ولا ينضج بما فيه الكفاية نتيجة للتربية الخاطئة فيظل مزعجا لكل من حوله بهدف الحصول على اعترافهم واهتمامهم؟

بالتأكيد أنت تعرف الإجابة عن هذا السؤال لكثرة من قابلت من أشخاص مزعجين. ونواصل السؤال: هل يمكن أن يعمل هذا الشخص في السياسة، وأن يصل بطريقة ما إلى رئاسة دولته.. فيعادي كل دول العالم ويزعج كل من هم حوله؟ هل طفل الأسرة المزعج من الممكن أن يتحول يوما ما في غياب النضج العاطفي والنفسي إلى ما يمكن أن نسميه طفل العالم المزعج؟

إجابتي هي: نعم.

ولكن للأسف الشديد لن توجد الأم القادرة على التعامل معه بعنف لكي يكف عن إزعاج الناس. أعتقد أن هذه اللقطة تلخص ما نحن فيه، نحن والعالم.

لا أحد على وجه الأرض قادر على إنقاذ الشعب السوري من حكومته في دمشق وحكومته الحليفة في إيران. وإذا كانت القوى العظمى في أوقات سابقة لجأت للتدخل المسلح لإسقاط بعض الحكومات وإنقاذ بعض الشعوب من مذابح دائرة أو مرتقبة، فأنا أعتقد أن الظروف الجيوسياسية في حالة الشعب السوري لا تساعد أحدا على ذلك. وربما كانت التدخلات المسلحة السابقة قد ولدت لديهم إحساسا بعدم الجدوى، بعد الخبرات الأليمة التي مرت بهم، لا شك أن البعض منهم يتساءل: وبعد أن نتمكن من إنقاذهم.. هل سيحاصرون سفاراتنا ويقتلون سفراءنا مكافأة لنا على إنقاذهم؟ وعندما ننشئ شرطة عصرية لهم كما فعلنا في أفغانستان، هل سيقتلون رجالنا غيلة وغدرا؟ لا يوجد ما نفعله باسم الإنسانية سوى أن نمدهم بالسلاح والمعدات التي تساعدهم على الصمود في معركتهم.

ولكن حتى هذه المساعدات لن تكون لكل الفصائل المحاربة أو المقاومة، بل لهؤلاء laquo;الذين يشاركوننا قيمناraquo;، كما قال السيد رومني. الواقع أنه من الناحية العملية والواقعية، يستحيل في الظروف الراهنة أن تعرف ولو بالتقريب من يشاركك قيمك ومن يختلف معك فيها، كلهم الآن يدافعون ويموتون دفاعا عن حريتهم، حكاية الأفكار والقيم هذه تشحب تماما بل وتختفي مع دوي المدافع والقنابل، ثم تظهر مرة أخرى مع اختفاء الديكتاتور ليبدأ الصراع السياسي بكل أدواته المعروفة. ومن الناحية العملية أنت تعطي مساعداتك من السلاح لعدد قليل من الأفراد وهم القادة الميدانيون الذين تثق في قدراتهم العسكرية. من المستحيل أن تعقد اختبارات لتختار من بينهم من يؤمن بالقيم الغربية، فربما تجد بين جماعة طالبان شخصا يحب شكسبير ويعشق بيتهوفن ودرس الهندسة في أرقى الجامعات الإنجليزية ثم يرسل لك من يفجر الأبراج التي يسكنها آلاف البشر عندك.. نقترب الآن من خرافة شهيرة هي الحلول السياسية والدبلوماسية القائمة على اللقاءات وتبادل الكلمات.

أرجو أن تتذكر ما قاله السيد الأخضر الإبراهيمي في بداية مهمته، لقد قال إن الموقف صعب للغاية وإنه يخشى الفشل في المأمورية التي كلف بها. الواقع أنه لم يكن يخشى الفشل فقط، بل كان على يقين من أن مهمته مستحيلة استحالة مطلقة. أما التدخل العسكري من البلاد العربية، فهذا أيضا أمر مستحيل، فلم يحدث أن جيشا في المنطقة العربية تعلمت جنرالاته، أو أجرت تدريباتها، أو فكرت أو خططت للهجوم على الأرض السورية أو حتى التفكير في عمليات دفاعية ضدها، هذا أمر بعيد تماما عن عقيدة الجيوش العربية القتالية، وحتى لو تخطت تلك العقبة فلا شك أنها ستفتح أبواب الجحيم على المنطقة كلها. من المؤكد أن إيران ستندفع بكل ما تملكه من قدرات عسكرية للهجوم على شواطئ الخليج. هذا هو بالضبط ما تريده إيران وما تسعى إليه منذ زمن طويل، أن يبدأ الآخرون بالضربة الأولى، هكذا تضمن وقوف الشعب معها في حربها بغض النظر عن نتيجة الحرب وخسائرها فيها. لو أنك درست خطابات السيد نجاد وتهديداته الدائمة لمن حوله وللبعيدين عنه، ستكتشف أنه يعمل بلا كلل أو ملل على استدعاء هذه الضربة.

نأتي إلى تركيا، تركيا دولة مستقرة ولديها جيش محترف يقوده جنرالات محترفون أقلعوا عن العمل في السياسة منذ زمن طويل، وهم يعرفون أن الحرب لا تقوم لأسباب غضبية وإنما تحدث عندما تكون laquo;خيارا وحيداraquo;، ولذلك ففي مواجهة قذائف المدفعية السورية الساقطة داخل أرضها، اكتفت الحكومة التركية بالحصول على موافقة البرلمان على أي فعل عسكري تتخذه عند الضرورة. كلمة laquo;الضرورةraquo; هنا تعني عندما تجد نفسها أمام خيار وحيد. غير أنني حتى الآن أستبعد تماما أن يتدخل الأتراك بعمليات عسكرية واسعة ضد النظام السوري بعد أن ذاق الشعب التركي حلاوة الاستقرار وارتفاع مستوى المعيشة الناتج عن الحركة السياحية النشطة، والقدرة الهائلة على التصدير، لن يكون من السهل أن تضحي تركيا بكل ذلك.

موقف محزن وتعس يعانيه كل من يرى ويستمع لنشرة الأخبار في الصباح والمساء، أن يقتل عدد كبير من أهلك في كل لحظة وأنت عاجز فعلا عن صنع أي شيء. كل ما يستطيعه العالم فعلا هو الاستمرار في منحهم المزيد من السلاح، والأفكار أيضا، ومع الاعتراف بأن أهل مكة أدرى بشعابها، وأن السوريين مقاومين وضحايا يعرفون أرضهم جيدا، غير أنه لا بد لهم من مساعدات في التخطيط العسكري تمنح الجيش السوري الحر القدرة على الانتقال من عمليات الكر والفر بخسائرها المروعة، إلى عمليات منظمة تستهدف الوصول إلى أهدافها بسرعة. إن تقليل أمد العمليات يتيح الحياة للمزيد من البشر، ويعجل بعودة اللاجئين إلى بلادهم وقراهم قبل أن يقتلهم البرد.