ميشيل كيلو

هناك فكرة واسعة الانتشار في اوساط المعارضة السـورية، ترى في قادة النظام مجموعة مجانين يخبطون في هذه الحياة الدنيا خبـط عشواء، فلا خطط توجههم، ولا عقل يحكم حركتهم، ولا غاية تضبط سلوكهم، ولا قدرة لديهم على أن يروا ابعد من رؤوس أنوفهم. هناك، في الوقت نفسه، فكرة معاكسة في صفوف المعارضين تقوم على إبداء الاستغراب من قدرة نظام هذه صفاته على الاستمرار طيلة قرابة نصف قرن، رغم ما واجهه من مصاعب جدية في أحيان كثيرة، وعلى عزو بقائه إلى مصادفات غرائبية او مؤامرات خارجية، أو أحداث خفية يصعب إدراك كنهها، مع أن الجميع متأكد من وجودها تأكده من وجوده الشخصي.
سادت الفكرة، التي لطالما روّجت لغباء أهل النظام وتخلفهم العقلي، عند تقويم سياسات النظام خلال الأزمة الحالية، التي اعتبرت ضرباً من تخبط أعمى يجسد إفلات الأمور من أيدي اهل السلطة والقرار، وعجزهم عن فهم ما يجري، واختيارهم مواقف خاطئة أملاها عليهم قصور عقلي وأخلاقي يضعهم في موقع مجافٍ للوطنية والسلوك القويم، يستوجب أدانتهم كناقصي ولاء للشعب والبلاد، يهدد ما يمارسونه من سياسات حكمهم مثلما يهدد غيره من مقومات الوطن.

ما تمّ ترديدها، صحيحة في جـانب واحد يتـصل بلا عقلانـية السلطة. لكنها خاطئة في سائر جوانبها الأخرى، لأنها تتجاهل أن اللاعـقلانية لا تعني بالضرورة أن كل ما يصـدر عن أصحابها يكون عشوائياً ويفتقر إلى الترابط الداخـلي، ولا مـفر من أن يكـون بالتالي خاطـئاً. هـذه الفكرة ،التي تطبـع أي سلوك تـقوم السـلطة به وأي موقف تتخذه بطابع اللاعقلانية العامة لبنيتها، ليست صحيحة في حالات كثيرة، عندنا وفي العالم الفسيح، فمن المعلوم أن اللاعقلانيـة هي سـمة الاقتصاد الرأسمـالي العـام، والعقلانية التفـصيلية سـمة ما يمارسه من سياسـات جزئية، بينـما كان الاقتـصاد الاشـتراكي عقلانياً في سياقه العام ولا عقلانياً في سياقـاته الجزئـية. كما أن لاعقـلانية السلطة السورية لا تعني افتقارها الى قدر من التفكير المتماسك والمنسجم، الذي كثيراً ما يميز إجراءاتها وتصرفاتها، التي ليس من الضروري ان تكون عقلانية كي تكون فاعلة وإجرائية، ففي كل سلوك جانب تقني ليس من الحتمي ان يكون صحيحاً حتى يصير مؤثراً وضارباً.
هذه المقدمة الطويلة نسبياً كان لا بد منها قبل الحديث عن سياسات النظام او استراتيجيته في مواجهة الانتفاضة الشعبية الواسعة التي نشبت ضده واستمرت طيلة عام وسبعة أشهر الى الآن.
استعد النظام لمواجهة الانتفاضة قبل انفجارها، ووضع الخطـط التفصـيلية والعـملية للقـضاء علـيها، وجهّز القوى الضرورية لذلك، وفعل هذا كله بطريقة مترابطة ومنسجـمة، وانطـلق في سياسـاته من مراقبته الدقيقة لما جرى في بقية الـثورات الـعربية، وما جمعه من معلومات ووجهات نظر حول احتمالات الثورة السورية وممكناتها، مع التركيز على حقيقة مثلت روح هذه الثورة وجوهرها الحقيقي، تجسدت في وحدة المجتمعين المدني والأهلي حول قيم المجتمع الأول، المدني، التي تبناها المجتمع الثاني، الأهلي، لأول مرة في التاريخ، وتمحورت جميعها حول المواطن بوصفه إنساناً يتعرف بالحرية وما يعبر عنها من نظام ديموقراطي ينهض على مشاركته في الشأن العام.
ماذا كانت خطة النظام في مواجهة هذا الجديد، المفصلي والتحولي في تاريخ الشرق والعرب، والذي خشي ان يتمكن من إنزال الهزيمة به إن هو تركه يستمرّ وتنامى، ولم يسحقه في مراحل حراكه الأولى؟ لقد خطّط أرباب السياسات القمعية لفصل المجتمعين المدني والاهلي بعضهما عن بعض، بالقضاء الجذري على الأول، قائد الثورة ومنظمها، الذي يمثله الشباب والمثقفون والمعلمون والجامعيون والفنانون والمحامون وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسون وصغار ومتوسّطو التجار ورجال الأعمال، واستخدام أعظم قدر من العنف المستمر والقابل للتصعيد ضد المجتمع الثاني، الأهلي، لإرغامه على السير وراء قيادة تقليدية ومذهبية قدّر أنها ستنشأ في مسار الصراع، ودفعه إلى ممارسة عنف مضاد للعنف الرسمي، يفضي توسّعه الى القضاء على الطابع المجتمعي للحراك، وإجبار قطاعات شعبية واسعة على الخروج من الشارع والبقاء في منازلها، وتحويل نضال الشـعب في سبـيل الحـرية إلى اقتتال طائفي الهوية والطابع، والشعب الواحد الموحـّد إلى مزق وجمعات متناقضة الخيارات والانتماءات، يتنافى وجود كل واحدة منها في بعض جوانبه مع وجود غيرها، سبيلها إلى تسوية خلافاتها السلاح والعنف المتبادل، إثباتاً لأطروحة سلطوية حول ما يجري في سوريا باعتباره قتالاً بين سلطة شرعية وجماعات مسلحة: عصاباتية وخارجة على القانون.

طبـق النـظام هذه الخـطة بلا هـوادة. ولم يدع علاقـة أو أمـراً أو ضـغطاً يحرفه عنها، ومـارس خلال تطبيقـها قـدراً من العنـف أراد له أن يكون مستفزاً يدفع المجتمعين المدني والأهلي إلى الخروج عن خياراتهما العقلانية والإنسانية، والانغماس في خيارات عنـيفة وفئـوية لا يستقيم وجود الوطن معها، لأن النظام، الذي رفع شعـار laquo;الأسد أو نحرق البلدraquo;، أو laquo;الأسد او لا أحدraquo;، كان يتصرف من منطلق أن الثـمن الذي يجب على السوريين دفعـه للتخـلص مـنه لا يجوز أن يكـون أقل من إفراغ البلاد من شعبها أو إحـراقها وتركـها قاعاً صفـصفاً، لرفـع كلفة الحرية بالنسبة الى الشعب وخدمة النظام، الذي يشطب سوريا من معادلات القوة في المنطقة بقضائـه على الدولة والمجتمع، ويضع نفسه تحت رحمة أميركا وإسرائيل: المستفيد الأكبر من سياساته التدميرية المتصاعدة، التي تقوم على معادلة مرعبة حدها الاول النظام والثاني سوريا، فإما أن توجد بوجوده او ان لا توجد إطلاقاً في حال سقوطه.
هذه الخطة، كان عليها تنمية روح التطرف واللاعقلانية على الجانب الشعبي، والقضاء على فرص الحلول السلمية والداخلية على الجانب السياسي، وفتح طرق متنوعة لعقد تسويات مع الخارج، بما أن النظام نشأ العام 1970 في حاضـنة خارجيـة، وكان جزءاً من سلـسلة انقلابات عاشتها المنطقة، عززت وجود وسيطرة الأميركيين فيها وقلبت التوازن بينهم وبين السوفيات داخلها: من السودان جنوبا إلى سوريا والعراق شمالا وشرقا، مرورا بمصر ولبنان. إلى ما سبق، كان من الضروري سد أبواب التسويات السلمـية وفـتح بوابات العنـف، وتقويض مبدأ الحوار والتـفاوض كوسيلـة محتـملة لحـل الازمة، وتوحيد السلطة إلى أقصى حدّ ومنع أي شرخ يقع فيها بأي ثمن كان، وتفتيت المعارضة وإثارة قدر اعظمي من التنـاقض بين أطرافها ومكوناتها، وتقويض الجوانب الديموقراطية في عملها، والقوى المدنية والسلمية والوطنية المناضلة في سبيلها، ودفع الوضع إلى استقطاب يدفع المتصارعين إلى تطرف متصاعد: السلطة وقد أسفرت عن وجهها كجهة فئوية ومعادية للمجتمع، والمذهبيون من إسلاميين وعلمانيين كقادة لهم مصلحة في حرف الحراك عن المـسار الحر والديمـوقراطي، وفي تحويله إلى حراك طائفي/ مذهبي منفلت من عقاله يستخدم لتخويف الأقليات وإرعابها وإجبارها على دعم السلطة وسياساتها، إلى أن تبلغ البلاد حالاً من الصراع تنمي روح التطرف واللاعقلانية على الجانب الشعبي، ليحل الأكثر محل الأقل تطرفاً، ويتحقق هدف النظام النهائي والحقيقي: إجبار العالم على الاختيار بينه وبين تنظيمات إسلامية شديدة التطرف من سلفية جهادية وقاعدة، فلا يبقى لديه من افضلية غير تأييد بقائه خوفاً من تكرار تجربة العراق، حيث أوصل تنظيم القاعدة جيش الولايات المتحدة إلى حافة الانهيار بين العامي 2003 و2006، ومن أن يؤدي وصول الإسلاميين الى السلطة في دمشق الى إخافة إسرائيل من الأصولية ودفـعها إلى مواصـلة التمـسك بالنظام، الذي ضمن أمنها الإقليمي ولم يقم بأي عمل يزعجها في الجولان منذ نيف وأربعين عاماً، رغم أنها ضمّته إلى أراضيها وفرضت سيادتها عليه.
ميدانياً: تتضافر جهود طرفي التطرف الرسمي والمذهبي المعارض ضد القوى المدنية والديموقراطية، ويحجم النظام عن قصف المناطق التي تخضع لتنظيمات التطرف الإسلامي المتشدّد، بينما تتكفل تدخلات دولية وإقليمية في تحييد القسم الأكبر من ضباط الجيش الرسمي، الذين انشقوا عنه ويعيشون في تركيا والأردن، في حين يهيمن على القرار العسكري ضمن مناطق واسعة قادة من أمثال ابو دجانة أو ابو دجاجة، ويخضع العسكري المحترف للمتطرف الذي يعتقد أن استعداده للاستشهاد بحزام ناسف هو أعلى أشكال العلم العسكري، وانه كفيل وحده بتحقيق الانتصار.
هـذه سياسـة النـظام مـنذ بداية الأزمـة إلى اليوم. وإذا كانت قد عجـزت عن كـبح جماح الشعب وكسر شوكته، فإن رهاناتها ما زالت حـمالة مخـاطر جديـة على سوريا ومستقبــلها وثورتها، التـي لا بـد أن تستعيد عقلانيتها الأولى، ومطـلب الحـرية الجامع لشعبها، وأن تأخـذ بالحسـبان مخـاطر التـطرف الإسلامـي والطائفـي على الشـعب، وترى فيه رأس مـال النظـام الذي يمـكن أن يكـون الـسبب في إرغام العالم على قبول احتـفاظه بالسلـطة، في بلد تمّ تدمــيره ويحتاج إلى عقود طويـلة كي تقوم له قائمة، إن قامت له قائمة في أي يوم منظور.
سيحقق هذا الحل أمن الخليج، الذي لن يكون حزيناً لفشل الثورة السورية، وسيكون سعيداً بالنظام الضعيف والمتهالك الذي سيركع على ركبـتيه طويلاً قبل أن يمنحه النفـط العـربي أي قرش، وسيـحقق أمن إسرائيل، التي أبدت قدراً عظيماً من الوفاء حيال النظام خلال الازمة، كما سـيرضي أمـيركا، التـي ستبقي في السلطة نظاماً لا عدو له غير شعبه، الخطير على أصدقائها ونظمهم في الخليج، وسيضع النظام الأسدي إلى جانب الغرب في الصراع ضد إيران، وسيمثل ضربة عنيفة جداً للروس، الذين سيرثون كارثة إنسانية ستستهلك الكثير من إمكاناتهم، خاصة أن ألقي عبء إعـادة بنـاء بلاد صـارت أقـرب إلى مقبرة مقفرة منها إلى وطن، وأخيراً، سيمكن كل بلد إقليمي من فرض ما يريده على نظام الأسد المتهالك، الذي لن يقوى بعد ذلك على رفع يده عن ساقه من دون إذن خارجي ومداخلات إقليمية ودولية لا خيار له غير الرضوخ لها.
لا شك لدي في انتصار الشعب السوري. لكن المثل يقول: من لا يحسب لا يسلم. ولعل أول مبادئ الحساب الصحيح يكمن في الإقلاع عن اعتبار قادة النظام مجموعة من الحمقى، وفهم خياراتهم وبدائلهم وتطوير ردود ناجعة وعقلانية ووطنية ضدها. وفي النهاية، معرفة أنها تحمل الكثير من الخطر على الوطن والشعب، إن كنا نريد أن نكون مسؤولين أمام وطننا وشعبنا!