إدريس الدريس


أزعم أن لبنان سيعود دوحة للفن والإبداع من خلال بسط السلم والأمن على أرضه، وسيكون ذلك فور سقوط نظام الوصاية السوري الذي جثم بسطوته على لبنان منذ أن اعتلى حزب البعث مقاليد السلطة هناك، كما أن سقوط النظام السوري سيكون مدعاة لتقليم أظافر quot;حزب اللهquot;

لبنان وطن صغير في مساحته ومحدود في موارده الاقتصادية، لكنه مع ذلك يفرض حضوره الإقليمي والدولي على صناع القرار وعلى متلقفي الأحداث، ويتصدر بين فترة وأخرى نشرات الأخبار. واللبنانيون في معظمهم يتوفرون على مهارة تسويق أنفسهم، ولديهم شطارة لافتة في كسب المال، ولهذا تجد السياسيين والمتحزبين منهم في حالة تحول وتعدد في الولاءات بحسب اختلاف وامتلاء الدافع. ولبنان كذلك يتوفر على هذا الاختلاف والتباين في جغرافيته وطقسه ودياناته ومذاهبه. وكل هذا الاختلاف متجسد بوضوح فاقع في هذه البقعة الصغيرة التي تكون ملاذاً سياحياً وثقافياً في حالة الصفاء والاستقرار، نسبة لكون طبيعة لبنان الجغرافية فيها الجبل والسهل والنهر والبحر، وبالتالي ففيها في نفس اليوم واللحظة مختلف الأنواء بين رطوبة وبرودة واعتدال وغيوم وضباب وأمطار في المرتفعات وشمس شارقة في السهول. وفي لبنان ndash; أيضاً ndash; يبرز التنوع الديني على مسافة متقاربة، حيث يتجاور المسجد إلى جانب الكنيسة، بما يجسد التعايش الإسلامي والمسيحي، بل إن التنوع يمعن في تباينه داخل الطائفة الواحدة، فهناك الماروني والأرثوذكسي، مثلما أن هناك المسلم السني والشيعي وهناك الدرزي. وهذا التنوع هو الذي أثرى النتاج الفكري والفني في كافة صنوف الإبداع الأدبي الذي كانت بيروت محطة عربية بارزة فيه، يتصدر فيها المشهد الإبداعي أمثلة عديدة إما من خلال فيروز وسلالتها الرحبانية، أو من خلال الأدب الذي كانت مطابع لبنان تضخه إلى العالم العربي رواية وشعراً وفكراً على نحو جعل بيروت محضناً لكثير من المبدعين العرب الذين وجدوا فيها مناخاً وحرية تسمح لعصافير الإبداع بالتحليق دون قصقصة لريشها أو تثبيط لأجنحتها. والحال كذلك مع الصحافة اللبنانية التي كانت تتقدم الصفوف الأولى عربياً، سواء على مستوى الشكل والإخراج أو حتى على مستوى مضمونها الذي كان يجسد الحراك النوعي والكمي الذي تموج به العاصمة العاصفة بكل ملامح التلاقح السياسي والفكري العربي.
ولبنان كنتيجة لهذا الاختلاف الإيجابي صار قبلة للتسامح والتعايش الإثني والطائفي على نحو جعل من هذا البلد مزيجاً من الحداثة والتقليد والتجاوز والثبات، ومن هنا تجسدت في لبنان ملامح فنية مغايرة للنمط التقليدي العربي، وهو ما يمكن أن يطلق عليه الفرانكوفونية والفرانكوعربية، بمعنى أن تجد مثلاً فنانة تتصرف في منطقها وشكلها ومظهرها الخارجي بما يجسد ملامح انفتاح وسلوكيات أقرب للملمح الأوروبي رغم تواجد محيط عربي تقليدي مجاور لها في الضيعة أو المنطقة الأخرى في نفس البلد، ولهذا انطلقت من لبنان أكثر الصرعات الغربية في الفن والمظهر. وكل هذا الاختلاف الإيجابي الذي يجسد هذا الثراء الفكري والفني يصبح في لحظة الخلاف والخصام نقمة وقنبلة تنفجر فتحصد كل المشتركات التي تجمع اللبنانيين لتبرز الاختلافات التي هي مصدر ثرائهم حينا ومصدر ثورتهم حيناً آخر.
أعتقد أن المحاصصة الطائفية التي يقوم عليها شكل الحكم السياسي في لبنان هي سبب هذا الخلل الذي يجعل منصب رئيس الجمهورية يتشارك في نفس القوة مع منصب رئيس الحكومة الذي بدوره يتشارك في نفس القوة مع منصب رئيس مجلس النواب، بحيث تتغالب هذه القوى للسيطرة وأخذ أكبر قدر من الصلاحية. وقد سعى اتفاق الطائف لحل هذه المعضلة، لكن المثل الشعبي يقول إن quot;قدر الشراكة ما يفوحquot;، ومن هنا فإن هذه التوازنات هي التي جعلت لبنان مستهدفاً من قبل الدول الأخرى التي تحاول السيطرة على القرار فيه وعليه، فقد توازعت وتباينت الولاءات عند أصحاب القرار اللبناني على نحو جعله قماشة يقتطع أطرافها عدد من اللاعبين الدوليين والإقليميين في الساحة اللبنانية.. وهكذا بات لبنان محطة لتوازع الأهواء وأرضاً تجسدت فيها النزاعات الفلسطينية الإسرائيلية التي استشرت لتصبح حرباً أهلية أحرقت الأخضر واليابس حتى مجيء اتفاق الطائف الذي أعاد السلم إلى محضنه وأعاد إعمار ما تهدم. لكن عجلة الولاءات والبيع والشراء عادت مع هواجس تصدير الثورة الإيرانية من خلال تنمر وتضخم حزب الله الذي صار حكومة فوق الحكومة وجيشاً فوق الجيش اللبناني بقدر أظهر التحالف الإيراني السوري مكشراً عن أنيابه عبر حوادث الاغتيالات المتواترة والمتوالية منذ مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ومن تلاه من الموالين وانتهاء بجريمة اغتيال كاشف الاغتيالات ومحضن الأسرار الأمنية رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني اللواء وسام الحسن الذي قضى وسائقه وثمانية شهداء وزهاء 110 جرحى يوم الجمعة الماضي.
أزعم أن لبنان سيعود دوحة للفن والإبداع من خلال بسط السلم والأمن على أرضه، وسيكون ذلك فور سقوط نظام الوصاية السوري الذي جثم بسطوته على لبنان خلال العقود الأربعة الماضية منذ أن اعتلى حزب البعث مقاليد السلطة هناك، كما أن سقوط النظام السوري سيكون مدعاة لتقليم أظافر quot;حزب اللهquot; وإدخال كل منظومات الأسلحة الحزبية والطائفية تحت إمرة الحكومة وجيشها الموحد، فلا يليق أن يحكم الوطن برؤوس متعددة وولاءات متضادة وتدخلات خارجية.
يجب لكي ينأى لبنان عن وقع التفجيرات والفتن الداخلية أن يختط لنفسه مساراً وهدفاً واحداً يجعل من لبنان دولة مستقلة برأس واحد وولاء واحد وقرار واحد.