عبد الاله بلقزيز

بات أكثر العرب والمسلمين، اليوم، يخشى على الإسلام وعلى وحدة الأمة والجماعة من المسلمين أنفسهم، بعد أن كان يخشى عليه وعليها من الأجانب المعادين . لِنَقل إنهم باتوا يخشون على دينهم ووحدة جماعتهم من أفعال بعض قليل من المسلمين . والبعض هذا كناية عن جماعات raquo;الإسلام السياسيlaquo; التي زاد نفوذها، وظهورها على المسلمين جميعاً، بعد أحداث الربيع الإسلامي في البلاد العربية منذ بداية هذا العقد الثاني من القرن الجاري . بل إن الخوف على الإسلام، ووحدة الجماعة، أطَلّ قبل هذا التاريخ بزمن، منذ سنوات الثمانينينات من القرن الماضي، حين بدأ الإسلاميون يجنحون للعنف السياسي في بلدان مثل مصر وسوريا، وخاصة منذ مطلع عقد التسعينات مع ابتداء الحرب الأهلية في الجزائر، وظهور raquo;جهاديات سياسيةlaquo; عدة، محمولة على المثال الأفغاني، وانتشارها في رقعة غطت المعظم الغالب من الجغرافيا العربية .

مَبْعَثُ الخوفِ المشروع هذا أن خلافات المسلمين التي كانت، في أزمنة ماضية، تُحْسَم بالجدل والمناظرة والاجتهاد في الرأي، أو لا تُحْسَم أصلاً فتعلق على أمل أن تُحسم يوماً بالحسنى، باتت تحسم اليوم بالعنف، والقمع، وأوحدية الرأي، وأصبح في وسع أية جماعة أن تبرر لنفسها الحق في إجبار غيرها من الناس على إيقاعها أو تعريض هؤلاء لعقاب تراه raquo;مشروعاًlaquo; لأنه raquo;يطابقlaquo; - في نظرها - raquo;حُكْم الشرعlaquo; كما يفهمه قادتها وأمراؤها وفقهاؤها .

فالإسلام، عند كل جماعة، هو إسلامها هي وما عداه تحريف أو ابتداع أو ضلال، ومن ليس ينضوي فيه طوعاً يُجْبر على الدخول فيه عنوة وكرهاً، وكم من قضية فتحتها الجماعات المتطرفة على المسلمين ولم تغلقها إلا بالدم . وإن نحن استعدنا شريط أحداث العشرين عاماً السابقة، التي كانت الجماعات raquo;الجهاديةlaquo; طرفاً أصيلاً في صناعة فصولها (الدموية خاصة)، يمكننا أن نقول إن ما فعلته لم يكن أكثر من عدوان على معنى الإسلام، ومعنى الجهاد في الإسلام، وذلك بنقله من جهاد يجري في raquo;دار الحربlaquo; إلى raquo;جهادlaquo; يجري داخل raquo;دار الإسلامlaquo; ضد المسلمين أنفسهم، لا لشيء إلا لأنهم يخرجون عن العقيدة السياسية والثقافية لجماعات العنف .

وما أغنانا عن القول إن هذا التزوير الفاضح لمعنى الجهاد، لدى الجماعات المتشددة، يؤسس لشيء وحيد في الاجتماع السياسي للعرب والمسلمين هو الفتنة والحرب الأهلية اللتان تذهبان بوحدة الأمة والجماعة و- بالتالي - بإسلام تنهل الأمة والجماعة تيناك وحدتهما منه، ونحن، اليوم، نستطيع أن نستشعر خطورة الظاهرة هذه، وأن ندرك جملة الأسباب السياسية التي تنتجها، أو توفر لها شروطها الموضوعية، لكننا لا نملك أن نتجاهل - بل وينبغي لنا ألا نتجاهل - أن عوالمها وأسبابها ثقافية أيضاً، وأن هذه العوامل والأسباب تحتية وعميقة بحيث لا تقبل إنكاراً أو جحوداً، لأنها تاريخية وعريقة، بل وتنتمي إلى ما يمكن تسميته باللاشعور الثقافي الإسلامي الجمعي . وقد يكون في قلب تلك العوامل والأسباب فكرة raquo;الفرقة الناجيةlaquo;: الثاوية في أعماق الثقافة الإسلامية . فالفكرة هذه - والجماعات جميعها تحملها - تسوغ لكل واحدة منها أن تحسب نفسها وحدها، دون سواها، تلك raquo;الفرقة الناجيةlaquo;، وأن تحسب غيرها على ضلال . وعلى المرء أن يتصور ما الذي يمكنه أن ينجم من فكرة تضع الحق المطلق في فريق بعينه، وتضعه عن فريق آخر .

على أن الخوف على الإسلام والمسلمين من جماعات الفتنة لا يتعلق - حصراً - بالخوف من جماعات العنف، كما قد يعتقد، ذلك أن الذين يهددون الإسلام ووحدة الجماعة والأمة ليسوا دائماً - وبالضرورة - من دعاة raquo;الجهادlaquo;، ولا ممن عُرف عنهم أنهم يركبون وسائل العنف المادي المباشر، ولقد أسفرت حقائق الربيع الإسلامي عن صعود قوى جديدة إلى السلطة عرفت - في ما مضى - بأنها قوى معتدلة، ومنها تنظيمات raquo;الإخوان المسلمينlaquo; في غير بلد عربي . لكن هذه حملت معها، في صعودها ذاك، حقيقتين مقلقتين:

* أولاهما أنها أطلقت موجة من المد العنيف لتيارات دينية - سياسية ظلت، ولفترات طويلة، في حال من الخمول والانكفاء، بل ومن العزوف التام عن السياسة والشأن العام ومنها الحركات السلفية التي باتت نشطة - على نطاق واسع - في بلدان مثل تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، والمغرب . . إلخ .

والمشكلة ليست في أن هذه التيارات خرجت إلى الوجود، فهي كانت موجودة منذ زمن غير يسير، وإنما المشكلة في أنها أعلنت انطلاقتها السياسية على نحو فجر تناقضات حادة انتقلت بالاجتماع العربي من الاستقطاب السياسي حول شؤون خلافية إلى استقطاب ديني تحولت معه المساجد - مثلاً - من أماكن للعبادة إلى مسرح لنزاعات سياسية يومية .

* وثانيتهما أن صعود raquo;الإسلام السياسيlaquo; إلى السلطة، والنزاع عليها بين قواه المختلفة، أدخل الدين بشدة في معترك ذلك النزاع، وعرضه لفقدان وظيفته الأصل كلحام وجامع للشعب والأمة، ولصيرورته عاملاً من عوامل تمزيق أواصرها ووشائجها . ومثلما أتى هذا الإقحام القسري للدين في السياسة ومنازعاتها يزور وظيفة الدين الإيمانية والاجتماعية (ومنها التكافل والتناصر والتوادد والمرحمة)، أتى يدخل المسلمين في لجة خلافات مذهبية، بعثت الحياة في ذاكرة فتنوية قديمة، كان المسلمون - وما يزالون - في غنى عنها وهم يبحثون، اليوم، عما يقيم بينهم الوشيجة والقربى بدلاً من فرقة وتنابذ وانقسام بددت جمعهم، وأتت على بقايا الوحدة والتماسك فيهم منذ زمان .

ليس تزيداً في القول، إذن، أن يقال إن المسلمين خائفون، اليوم، على إسلامهم من جماعات تتقاتل على حيازة الحق في النطق باسمه، حيث كل واحدة منها تمتشق الزعم بأنها المالكة الوحيدة، والحصرية للحقيقة الدينية الخالصة، والممثلة للنهج القويم والفهم الصحيح لتعاليم الدين في أنحاء الدين والدنيا كافة: من طريقة الصلاة، إلى كيفية إطلاق اللحى، إلى الملابس، إلى شكل نظام الحكم! ومن يشك في هذا الذي نقوله، فليس عليه سوى أن يراقب ماذا يجري في آلاف المساجد والجوامع raquo;المُحررةlaquo; من قبل من يتنصبون حراساً للعقيدة في وجه مخالفيهم من المسلمين، بل في وجه المسلمين كافة، فسيرى العجب العجاب: سيرى كيف تصنع مقدمات الفتنة والحرب الأهلية في بيوت الله، وكيف يتعرض الإسلام - على أيدي مسلمين متشددين ومنغلقين - لابتلاء بشري أهوج . ترى، هل يناسبنا أن نقول مع أتباع السيد المسيح: raquo;اغفر لهم ياأبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلونlaquo;؟