خير الله خير الله

ألقى الملك عبد الله الثاني يوم الثالث والعشرين من تشرين الأول- أكتوبر الجاري خطاباً يمكن وصفه بالتأسيسي. قلّما يوجد زعيم عربي على استعداد للرد مباشرة على الذين يرفعون شعار إسقاط النظام. صحيح أن هؤلاء قلّة كان في الإمكان تجاهلها، لكنّ الصحيح أيضاً انّه كان مطلوباً توضيح الأمور مرّة أولى وأخيرة لقطع الطريق على المزايدات والمزايدين ووضع الاردنيين في صورة ما يدور في المملكة.
كان خطاب العاهل الأردني صادرا عن زعيم من دون عقد. شرح لأبناء الشعب الأردني بالتفاصيل ما هي المشاكل التي يعاني منها بلدهم وكيف الخروج منها عن طريق إصلاح الحياة السياسية في المملكة. هل يريد الأردنيون إصلاح بلدهم أم يريدون السقوط ضحية الشعارات التي لا تقدّم ولا تؤخر والتي يستخدمها الإسلاميون، ولى رأسهم الاخوان، حالياً بعدما استخدمها القومجيون واليساريون في الستينات والسبعينات من القرن الماضي؟
انتصرت الأردن في الماضي ولا شكّ أنها ستنتصر اليوم في ضوء وجود إرادة واضحة لدى الملك في السير إلى النهاية في الإصلاحات. أكثر ما يعبّر عن هذه الإرادة الإصرار على الانتخابات المقبلة، بعد نحو ثلاثة أشهر، والتي ستكون نقطة تحوّل. ولذلك كانت العبارة التي استخدمها عبد الله الثاني في غاية الأهمية، خصوصاً لدى قوله:quot; بحجم المشاركة (في الانتخابات) سيكون حجم التغييرquot; وأنّ quot;البرلمان القادم بوابة العبور إلى الإصلاح الشاملquot;.
ماذا يريد الأردنيون؟ هل يريدون حقّا تغيير النظام، أم أن الذين يطلقون هذا الشعار، إنّما يجهلون ما الذي يتحدثون عنه؟
كشف عبد الله الثاني أن هؤلاء لا يعرفون شيئاً عن البيئة الأردنية التي يطلقون فيها شعار تغيير النظام. لذلك، كان على العاهل الأردني شرح ما هو النظام الاردني الذي يتحدّث بعض الاسلاميين أو الانتهازيين عن تغييره. قال عبد الله الثاني بالحرف الواحد:quot;النظام هو الدولة بكلّ مؤسساتها ودوائرها تحت مظلّة الدستور. النظام هو القيم والمبادئ التي تقوم عليها هذه المؤسسات والدوائر. النظام هو كلّ فرد في هذا المجتمع. وكلّ فرد هو جزء من النظامquot;. هذا باختصار ما قاله العاهل الاردني عن طبيعة النظام الذي سمح بقيام مملكة وفّرت العيش الكريم لشعبها في ظروف اقلّ ما يمكن ان توصف به انها في غاية الصعوبة وفي غاية التعقيد. إنها ظروف لم يكن البلد قادراً على تجاوزها في غياب النظام القائم الذي عرف كيف التعاطي مع أزمات في غاية الخطورة، أزمات تحيط بالمملكة من كلّ حدب وصوب. تكفي حكومة بنيامين نتانياهو بكلّ ما تمثّله من طموحات استعمارية للتأكد من حجم التحديات التي تواج الأردن. ومن في حاجة الى المزيد، يستطيع تصوّر العبء الذي يقع على الاردن جراء تدفق اللاجئين السوريين على أراضيه.
تحدّث العاهل الاردني عن ازمة اقتصادية لا سابق لها، من بين أسبابها ارتفاع سعر النفط والغاز، خصوصاً بعد توقف النفط العراقي الذي كان يباع للاردن بسعر مدعوم لا يتجاوز ثلاثين دولاراً للبرميل قبل العام 2003، فإذا السعر يتجاوز الآن مئة دولار للبرميل. كذلك، ادى انقطاع الغاز من سيناء وما شهدته وتشهده مصر الى زيادة الفاتورة المتوجب دفعها أربعة مليارات دولار في أقلّ من سنتين!
مرّة أخرى، ماذا يريد الأردنيون؟ إذا كانوا يريدون التغيير، فلا سقف للاصلاحات تحت قبة البرلمان. ولكن عليهم تحمّل مسؤولياتهم والتوجه بكثافة الى صناديق الاقتراع مطلع السنة المقبلة.
عرض عبد الله الثاني الأمور كما هي. أكّد حق المعارضة في أن تكون quot;شريكاً أساسياً وفاعلاً في العملية السياسية بعيداً من الانتهازية والشعارات المزيفة واستغلال الظروف الاقتصادية الصعبة وعواطف الناس. ولكن لا يجوز لايّ فئة ادعاء أنّها تدّعي احتكار الحقيقة أو تمثيل كلّ الشعبquot;.
لم يكن الخطاب التأسيسي دفاعياً. كان أيضاً خطاباً هجومياً ذا لهجة تحذيرية، إذ قال: quot;علينا أن نتذكّر أًن الشعارات البرّاقة ليست الحلّ وأنّ العقليات الرجعية والمتطرّفة غير المتسامحة غير أمينة على مستقبل أبنائناquot;.
أين مستقبل أبناء الأردن؟ المستقبل يكمن في التوجه إلى صناديق الاقتراع والتفكير في الإصلاحات وفي كيفية حل مشاكل quot;مرتبطة بالبطالة والمديونية والإصلاح الضريبي والنظام الانتخابي والتعليم والمواصلاتquot;.
ما يلفت في الخطاب أنّ عبد الله الثاني كان يتحدّث من موقع قوّة. لم يلق خطابه التأسيسي إلاّ بعدما تأكد أن معظم الذين يشاركون في الحراك الشعبي بدأوا يستعيدون رشدهم بعيداً عن الهيجان الذي تسببت به الشعارات الفارغة والمبالغات التي لا معنى لها والتي باتت جزءاً من الفولكلور الوطني الاردني. كذلك، كان موقفه قويّاً بعدما تسجل ما يزيد على مليوني أردني في اللوائح الانتخابية. فالأردن في النهاية دولة مؤسسات قوية وراسخة سمحت بعبور الربيع العربي من دون سقوط قتيل واحد، على الرغم من مئات التظاهرات ومن وجود عناصر مدفوعة من قوى خارجية معروفة تسعى إلى خلق اضطرابات.
وجود مثل هذه المؤسسات يسمح للعاهل الأردني بالقول بكل ثقة: quot;الحكم بالنسبة الينا نحن الهاشميين، لم يكن في أيّ يوم مغنماً نسعى إليه وإنما مسؤولية وواجب وتضحية نقدمها لخدمة هذه الأمّة ومصالحها(...) ولم يكن الحكم بالنسبة إلينا أيضاً وفي أي يوم من الأيّام قائماً على احتكار السلطة وعلى القوة وأدواتها، وإنّما على رعاية مؤسسات الدولة التي تدار من قبل أبناء هذا الشعب بكلّ فئاته وفق أحكام الدستور. وهذا النهج نسير عليه منذ عهد الجدّ المؤسس وإلى اليومquot;. قال الملك عبد الله الثاني كلمته بصفة كونه مواطناً أردنياً يسعى بدوره إلى التغيير والذهاب في الإصلاحات إلى أبعد حدود. هل من أردني يمكنه الاعتراض على ذلك؟