حازم صاغيّة


دخل الجنود الأميركيّون العراق في 2003 وأطاحوا نظام صدّام حسين، أحد أسوأ الأنظمة التي قامت في العالمين العربيّ و laquo;الثالثraquo;. كان الأمر خليطاً يجمع بين الاحتلال والتحرير في عمل واحد. وبالطبع تزاحمت laquo;التحليلاتraquo; النضاليّة عن الأميركيّين الذين سيعaصرون أنفاس العراق، وسينهبون نفطه وثرواته، وربّما هواءه، وطبعاً سيبقون فيه إلى أن تطردهم هرمجدّون جديدة يكاد يفنى فيها العالم.

وهذه التحليلات الطنّانة إنّما قامت على ما رسمته الأدبيّات النضاليّة، على مدى نصف قرن، أشبه ببديهيّات: أميركا، وما أدراك ما أميركا؟! وفي تناول مصنع الشرّ هذا تمّ نفخ المواقف الأميركيّة من إسرائيل، وهي سيّئة بما فيه الكفاية، فيما صير، في المقابل، إلى تجاهل مواقف أميركيّة أخرى، كدعم الاستقلالات العربيّة، وصولاً إلى استقلال الجزائر، وتأييد مصر في حربها ضدّ laquo;العدوان الثلاثيّraquo; في 1956. إنّ الشيطان لا تصدر عنه إلاّ الشيطنة.

وبالفعل، لم تعد أميركا دولة وسياسة، بل غدت شيطاناً رجيماً، من غير أن يغيّر في صورتها الشيطانيّة الطلبُ العربيّ المتعاظم على الهجرة إليها والعمل والدراسة فيها، ودائماً الحصول على بطاقتها الخضراء الشهيرة.

المهمّ أنّ هذا الشيطان قُيّض له أن يمسك بخناق العراق والعراقيّين، ومن ورائهم العرب أجمعين، وما العياذ إلاّ بالله!

ودار الزمن دورته القصيرة، وإذا بإيران، على رغم laquo;قوّات الاحتلال الأميركيّraquo;، تغدو صاحبة اليد الطولى في بلاد الرافدين: لها حصّة الأسد في تشكيلاته السياسيّة والقياديّة، فضلاً عن نموّ مصالح كثيرة لطهران تبدأ بالاقتصاديّ ولا تنتهي بالدينيّ والمذهبيّ. فما إن اكتمل انسحاب القوّات الأميركيّة في أواخر العام الماضي، حتّى اكتمل الإطباق الإيرانيّ على أصغر تفاصيل القرار العراقيّ. وغنيّ عن القول إنّ إيران هذه هي اليوم العدوّ الأوّل للولايات المتّحدة الأميركيّة.

ليس هذا فحسب: فروسيا فلاديمير بوتين التي تطرح نفسها خصماً للولايات المتّحدة في كلّ ساحات المواجهة في العالم، حظيت بزيارة من رئيس الوزراء العراقيّ نوري المالكي نجمت عنها صفقة تسلّح بقيمة 4,2 بليون دولار. أمّا النفط، وللروس حصّة معتبرة في العقود المرتبطة باقتصاداته وعائداته، فكان الصينيّون، لا أميركا، المستفيدين الأكبر منه. هكذا وقّعت حكومتا بكين وبغداد اتّفاقيّتين حول التعاون الاقتصاديّ والتدريب في صيف 2011، ولم يكن الانسحاب الأميركيّ قد اكتمل، ترتّب عليهما منح امتيازات للشركات الصينيّة لا تحظى الشركات الغربيّة بمثلها. ولأنّ العلاقة بشركات الصين هي أيضاً علاقة بالحكومة الصينيّة المالكة لها، وهو ما لا يصحّ في الشركات الأميركيّة والأوروبيّة، أعطي الصينيّون استثمارات ضخمة في البنية التحتيّة، أي خطوط الأنابيب في حالة العراق، لإنتاج النفط. والجدير ذكره أنّ laquo;شركة النفط الوطنيّ الصينيّraquo; كانت أوّل شركة نفطيّة تعمل في عراق ما بعد صدّام، جاعلةً حقل الأحدب أوّل منطقة عراقيّة منتجة منذ عشرين عاماً.

هذا واقع لا يكتفي بتسخيف الرواية العربيّة عن أميركا و laquo;إمساكها بخناق الآخرينraquo;، ولا بتسخيف أصحابها. وقد سبق لتلك الرواية أن تصدّعت مراراً، لا سيّما في 1974 حين ارتفعت عائدات النفط أربعة أضعاف فأذعن الغربيّون لسعر السوق ولم يجرّدوا أساطيلهم وبوارجهم الغازية. بيد أنّ الرواية لا تتصدّع في عين قارئها حين يكون القارئ ذاته مصاباً بالتصدّع!