عبد الوهاب بدرخان


يكاد يسود التشاؤم حيال مسارات quot;الربيع العربيquot; بين المثقفين المصنفين quot;ليبراليينquot;، تمييزاً لهم عن quot;الإسلامينquot;، ولأن وصفهم بـ quot;العلمانيينquot; ليس دقيقاً خصوصاً إذا كانوا في معظمهم مسلمين ولا يستلهموا الدين أو يستخدمونه في مقاربتهم للسياسة.

هذه مرحلة الشكوك والتساؤلات، وربما التراجع أيضاًَ عن الحماس العارم للثورات والانتفاضات أثناء وقوعها وبعده ... إلى أن حصلت الانتخابات فأخرجت من صناديق الاقتراع حكاماً جدداً مسلحين بفكر أو أفكار غير جديدة. هنا انفتح المشهد على إشكاليات حالت أولوية الخلاص من الأنظمة السابقة دون توقعها، كما أن حالات التضامن والوحدة لاسقاط الأنظمة موّهت الانقسامات الراسخة.

كان النقاش في المنتدى السنوي السابع لـ quot;الاتحادquot;، أواخر الأسبوع الماضي، غنياً وعفوياً وواضح السمات. إذ أن quot;التغييرquot; طرح تحديات لا يبدو أنها تتناسب مع الخيارات التي تبلورت. فيما يسمى quot;صعود التيار الإسلاميquot; لا يقدم سوى مؤشرات إلى هبوط للآمال، وإلى بدايات أقل ما يقال فيها إنها مثيرة للجدل إن لم تكن غير مبشرة باستقرار قريب. والمسألة لا تقتصر على تسلم الإسلاميين زمام الأمور فحسب، بل تتعدى ذلك إلى كونهم نسوا خلال الشهور الانتقالية لماذا وكيف جاؤوا إلى الحكم، والأهم أنهم استخرجوا أجنداتهم القديمة معتقدين أنها لا تزال صالحة لهذا الزمن أو للمجتمع الذي تجاوزهم عندما كانوا في المعارضة ويريدونه الآن أن يعود إلى الوراء ليقف حيث كانوا واقفين منتظرين لحظتهم التاريخية.

لعلّ أخطر ما شهدته المرحلة الانتقالية، تحديداً في مصر، وكذلك في تونس، هو الذهاب من النقيض إلى نقيضه، رغم أن الشارع أعطى مشهداً يمكن وصفه بـ quot;الوسطيةquot; حين ركز على قيم وحقوق للجميع، وعلى quot;دولة مدنيةquot; يمكن أن تتشارك فيها مكونات المجتمع كلها في إطار احترام المواطنة وحقوق الإنسان.

وقد أظهرت عملية كتابة الدستور الجديد أن قوى تيار quot;الإسلام السياسيquot;، والأخص جماعة quot;الإخوان المسلمينquot;، تبنت مسلك نقيضها النظام السابق في السعي إلى دستور يمكنها من البقاء في الحكم، وهي بذلك تبرهن أنها أولاً لم تستوعب ما يعنيه الحكم الجمهوري، وأنها ثانياً تعامل بقية مكونات المجتمع وكأنها إما منتمية إلى النظام السابق ويستحسن إقصاؤها وإما أنها قاصرة وجاهلة وينبغي الأخذ بيدها وارشادها.

ولكن هل أن التحديات والإشكاليات الراهنة مفاجئة حقاً، وهل كان واقعياً توقع مسارات مختلفة؟ الجواب هو لا طبعاً. فالثورات والانتفاضات أسقطت أنظمة عمّر أصغرها ثلاثين عاماً، وذهبت بعيداً في قولبة المجتمعات وتخليقها لتخدم استمرارهم في السلطة.

لذلك لا تكفي سنة أو سنتان أو أكثر للخلاص من تداعيات زلزال سقوط العهد السابق، وبالتالي لبلورة عهد جديد ينبغي ألا يولد هو الآخر بدوره استقراراً زائفاً ومستنداً فقط إلى الترهيب.

وإذا كانت الشكوى من صعود تيار الإسلام السياسيquot; طبيعية ومشروحة لأسباب كثيرة، فالأحرى ألا ينسى أحد أن الشدة والقمع وعدم تزكية البدائل السويّة في السابق هي التي عززت هذا التيار وهيأته ليكون بديلاً جاهزاً.

وكان الخطأ الأكبر في تهميش قوى التيارات غير الدينية التي تعمل أساساً في العلن ولا تنتهج العنف، فكانت النتيجة أن هذه القوى خسرت في العهدين رغم أنها تمثل ما يسمى عادة quot;الأكثرية الصامتةquot;. لكن هذه الأكثرية تتشكل عموماً من فئات غير مسيّسة وتصب quot;سموحاتها على تأمين العيش الكريم والحياة الطبيعية لأبنائها ولو بأبسط الحقوق الإنسانية.

تتحمل قوى quot;تيار الإسلام السياسيquot; حالياً مسؤولية تغذية الانقسام الوطني في مختلف التجارب التي رفضتها إلى سدة الحكم. فكل الآمال والأحلام بلم الشمل وإشاعة روح التصالح للتمكن من إنهاض الاقتصادات وتنشيط التنمية، كلها تلاشت على وقع الاندفاع المحموم إلى الاستثناء بالسلطة، كما على وقع الصراع quot;الإخوانيquot; - السلفي. أما ذروة المخاطر فتكمن في جنوح القوى الدولية الكبرى إلى احتضان quot;الأنظمة الإسلاميةquot; الجديدة من قبيل احتواء العدو السابق على أمل تحويله إلى صديق، رغم أن هذه المحاولة قد تشكل تكراراً وتقليداً لسياسات سابقة أثبتت فشلها ولا يفيد فيها مجرد تغيير الوجوه.