علي الخبتي


تشومسكي عالم متمرس وبارع ويبني طرحه على شواهد.. وهو يعي ما يقول، وما قاله يدعو إلى الرعب حقا والتأمل والأخذ في الاعتبار

لمن لا يعرف نعوم تشومسكي، هو يهودي معتدل في آخر العقد السابع من العمر، وهو عالم اللغويات واستاذها فيMIT.. وتساوي اهتماماته السياسية اهتماماته اللغوية، وله نظريات في علم اللغة شغلت الوسط الأكاديمي لنصف قرن.. ونسخ النظرية السلوكية لصاحبها سكنرز عام 1959م.. وصاحب فضل نقل الاهتمام من مادة التعلم إلى أداة التعلم الرئيسية quot;العقلquot;.
وقصة تشومسكي في علم اللغة تتطلب مجلدات وليس هذا سياقها، والحديث هنا في مجال استحوذ على عقل وفكر هذا العالم، وهو المجال السياسي؛ لأنه من أكبر الناقدين للسياسة الأميركية في العالم.. وأظن أن هذا ما تسبب في عدم ظهوره في وسائل الإعلام الرئيسية المقروءة والمسموعة.. وهذا ما أظن أيضاً ما جعله يقول إن أفكاره: quot;لا تصل للرأي العامquot;.
حديثاً وبالتحديد في يوم 23 أكتوبر 2012م استضافت الجامعة الأميركية في القاهرة نعوم تشومسكي وتحدث عن السياسة والطاقة والبيئة بعمق الأكاديمي المتمرس الذي يربط الأحداث ببعضها ويبتعد عن رواية القصص الجميلة التي تروى بأسلوب بليغ ليلتزم بأكاديميتيه في طرح الشواهد والأدلة والأمثلة، ليدعم كل فكرة يطرحها ويبني طروحاته على دراسات وأبحاث أفضت إلى نتائج علمية لا يمكن دحضها.. ولكي يستشرف المستقبل ويحلل الواقع فقد بدأ الحديث من الحرب العالمية الثانية.. ليربطة بالواقع وما تنتظره الأجيال القادمة ليقول: quot;إن العالم الذي سنورثه لأبنائنا وأحفادنا عالم لا يدعو للفخر والاعتزاز، فالصورة ليست جميلةquot;، واستعرض دراسة علمية ذات مستوى عال خرجت للتو (قبل أسبوعين) تزيد من التهديدات لكوكبنا الذي نعيش فيه، وتقول إنه خلال العشرين سنة القادمة سيموت مئة مليون نسمة بسبب التغير المناخي أغلبهم في الدول الفقيرة.. وهذه الدراسة لم يتم الحديث عنها في الإعلام ولم تؤخذ في الاعتبار.. والصورة ليست جميلة أيضاً بسبب القرار باستخدام الوقود الأحفوري Fossil Fuel مما يعجل الكارثة.
والسؤال هنا، إذا ما كان ذلك صحيحاً، فما سبب رغبتنا في التضحية بحياة أولادنا وأحفادنا في سبيل مكاسب آنية؟ هذا سؤال كبير.. وقد تحدث عن أمور كثيرة.. تحدث عن سياسة أميركا فيما يخص انتشار السلاح النووي وقال: إذا كانت أميركا جادة، فيجب أن تدعم عالما خاليا من هذا السلاح.. فهي دعمت دولة في المنطقة لم توقع على معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشاملNon Proliferation Treaty وقد عبرالجنرال لي بتلر LEE Butler المدير السابق للإدارة الاستراتيجية في الجيش الأميركي عن هذه المخاوف بقوله: quot;إن من الخطورة بمكان أن نسمح لدولة واحدة في الشرق الوسط بتسليح نفسها بأسلحة الدمار الشامل مما يدفع دولا أخرى في المنطقة بعمل الشيء نفسهquot;، (المصدر محاضرة تشومسكي 23 أكتوبر 2012)، وهو هنا يشير بوضوح إلى إسرائيل التي توضح استطلاعات الرأي العام في أوروبا أنها أخطر دولة في العالم، فلها تاريخ طويل في إيقاع الظلم وقد رفضت تفتيش مفاعلاتها النووية.
ويضيف تشومسكي بما أن أميركا تدعمها فهي ثاني أخطر دولة في العالم.. وعن إيران يقول إنها غير محبوبة كما تبين استطلاعات الرأي العام لكنها لا تشكل تهديداً.. وعن ضرب مفاعلاتها النووية فهو لا يؤدي إلى نهاية التسلح النووي لإيران بل بالدفع بقوة لمبادرات قوية في هذا الاتجاه وضرب مثلاً بالعراق التي ضُرب مفاعلها النووي عام 1981م عندها قام صدام حسين بمبادرات قوية في هذا الاتجاه وبدعم من أميركا التي قامت في عهد الرئيس بوش الأب عام 1989م، بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية بدعوة عدد من المهندسين النوويين العراقيين لزيارة الولايات المتحدة الأميركية لتدريب متقدم لكيفية إنتاج السلاح النووي.. ولهذا فإذا ما تم تدمير السلاح النووي الإيراني فالنتيجة ستكون نفس نتيجة العراق.. وفي هذا الإطار تحدث عن مشكلة quot;الصواريخ الكوبيةquot; وعن تسلح الهند وباكستان بدعم من أميركا، وهما اللتان لم توقعا على معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وبين تشومسكي أن الدول العربية وكذلك الرأي العام الإسرائيلي تطالب بمنطقة شرق أوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل.. لكن أميركا تدفع بقوة إلى أن تكون إسرائيل مستثناة.. ويقول إن هذا الطلب لن يتحقق إلا بضغط من الرأي العام الأميركي..وهذا لن يتحقق ببساطة لأن الإعلام يعتم عليها، وقد قام عدد قليل بالكتابة عن هذه القضية لكن في مجلات متخصصة ولم يصل رأيهم.
ثم ينتقل تشومسكي للحديث عن قضية مهمة وهي انحدار أميركا الذي يقول إنه بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، عندما فقدت أميركا الصين باستقلالها عام 1949، لكننا لن نرى هذا الانحدار في المستقبل المنظور، ذلك أن البدائل التي يتحدثون عنها كالصين والهند هي دول فيها فقراء وفيها مشاكل ولا يمكن أن تحل في المستقبل القريب محل أميركا، والعالم لا يزال يحلق بنفاث واحد هو أميركا التي تبلغ ميزانية الدفاع فيها مجموع ميزانيات الدفاع في العالم مجتمعةً.. وإمكانيات التسلح الأميركي وتقنياته تفوق دول العالم.. ولأميركا انتشار عسكري واسع في جميع أنحاء العالم حيث تقدر قواعدها العسكرية في العالم بنحو ألف قاعدة عسكرية، وتسيطر أميركا على سوق السلاح في العالم حيث تبلغ نسبة سيطرتها ثلاثة أرباع سوق السلاح في العالم لتفوق الدولة رقم 2 وهي روسيا بعشر مرات.. لكن بالرغم من ذلك فالولايات المتحدة مستمرة في فقدان السيطرة على العالم؛ ففي العقد الماضي فقدت السيطرة على أميركا الجنوبية التي تعد الحديقة الخلفية لها..
وخلاصة القول؛ أن تشومسكي عالم متمرس وبارع ويبني طرحه على شواهد.. وهو يعي ما يقول، وما قاله يدعو إلى الرعب حقاً.. ثم إنه بالرغم مما يجب أن نكون عليه من تفاؤل، وبالرغم مما نعتقده نحن مثقفين ومفكرين من أن المجتمع العالمي أذكى من أن يتخذ قرارات وينتهج أساليب لتدمير نفسه بنفسه، إلا أنني أظن أن ما طرحه تشومسكي في محاضرته يدعو إلى التأمل والتفكير والأخذ في الاعتبار.. والمطلوب أن تكون هناك دراسات تتناول القضايا التي تناولها تشومسكي بالدراسة والبحث حتى لا نفاجأ بأننا نرفض ما لا نحب فقط لأننا لا نحبه.