جميل مطر

عشت فترات في بلاد كنت أجد في بعضها صعوبة في فهم كثير مما يجري . أذكر أنه في واحدة أو أكثر من هذه الفترات وقفت اللغة عقبة في وجه استيعاب ما أسمع وما أقرأ . لم أتمكن من المشاركة نطقاً أو كتابة في ما كان يجب أن أشارك . حدث في فترة أخرى أن كانت تعقيدات البيئة الاجتماعية أو الأمنية الحائل الذي حال دون اندماجي كاملاً في المجتمع . فاتني في الحالتين التعرف مبكراً إلى تفاصيل الناس وتقاليدهم وتأخر التواصل وتأخر معه الفهم ولم يكتمل إلا بعد وقت خلته دهراً .

جاءت فترة ثالثة كنت فيها ضمن ملايين من البشر جرفتهم انتفاضة قبل أن تتفجر في شكل إعصار تتلاطم فيه أفكار وتتداخل مشاعر انتقام بمشاعر غضب وكره وبكثير من الأحلام والآمال، عشت مع كثيرين فترة طويلة في انتظار أن يسفر الارتطام والصدام عن مشروع نهضة حقيقية . خاب بعض الأمل حين تغلب الصراخ والعويل فلم أعد أسمع سوى أصوات منفعلة لا تقول شيئاً، وانتهى الأمر بأنني لم أفهم إلا قليلاً ومتأخراً . ولم أكن وحدي .

ما أن وصلتني من مركز دراسات الوحدة العربية الدعوة للمشاركة في أعمال ندوة تنعقد في حمامات تونس لتناقش موضوع الدين والدولة في الوطن العربي وقرأت أسماء المشاركين حتى أسرعت بالموافقة . كانت حجتي أمام أصدقاء يهتمون بشؤون حلي وترحالي بسيطة وواضحة . قلت إنني في حاجة ماسة إلى الفهم، أريد أن أشارك بالاستماع والمناقشة لأفهم . قلت لهم أنا ذاهب لأشارك في ندوة أعتبرها تدريبية إذ يشترك فيها من أثق في أنهم سيشرحون ويفسرون . كان بين المدعوين للمشاركة الأصدقاء طارق البشرى وحسن حنفي ورضوان السيد وعبدالإله بلقزيز وميشيل كيلو وسعد الدين إبراهيم ومحمود جبريل ومنير شفيق، كان بينهم أيضاً الشيخ راشد الغنوشي والشيخ جواد الخالصي وعلي فياض وطلال عتريسي وآخرون ليصل العدد إلى ما فوق الستين . كان تصوري وجوهر قناعتي حين وافقت أن كوكبة على هذا المستوى وبهذا العدد قادرة على أن تعيدني إلى مصر فاهماً .

رداً على حجتي، قيل لي ولكنك تذهب لتستمع إلى أشخاص، أكثرهم تقرأ لهم أو تستمع إليهم في محاضرات أو لقاءات تلفزيونية، فإذا لم تكن قد فهمت بعد ما يقارب العشرين شهراً من الاستماع والمشاهدة والمتابعة، فلماذا تظن أنك ستفهم في يومين ما لم تستطع فهمه خلال كل تلك الشهور .

رداً على ردهم قلت، إنني واحد من الذين يعتقدون أن ما تسمعه من شخص وهو خارج بيئته التي تعود عليها أهم كثيراً مما يقوله وهو داخلها بين حوارييه وجمهوره . الإنسان خارج بيئته الطبيعية يكون أكثر قابلية لتطوير أفكاره وحججه وأكثر استعداداً للاستماع إلى من يخالفه في الرأي . قد يتصلب في بيئة مختلفة إن كان فى بيئته الأصلية معتدلاً، أو يعتدل إن كان فيها متصلباً . أردت أن أرى هؤلاء الأصدقاء من العلماء والمفكرين بعيدين عن قواعدهم وقد خلعوا بعض أردية التحفظ وتحرروا من قيود raquo;الشارعlaquo; الذي اعتادوا عليه لغة ولهجة وأسلوباً، وهو نفسه الذي يضغط عليهم ليكتبوا أو يعلنوا ما يريد أن يسمعه وليس بالضرورة ما يعتقدون أنه الصواب، وكثير منهم يستجيب .

على امتداد يومين وأكثر من عشر جلسات جلست أستمع باهتمام إلى علماء أجلاء أعادوا إلى ذاكرتي بعضاً مما نسيت وأضافوا جديداً لم أكن أعلمه . أجابت أوراقهم والنقاش الذي دار حولها عن بعض الأسئلة، ولكن لأسباب عديدة خرجت من الندوة وفي جعبتي عدد غير قليل من أسئلة حملتها معي من القاهرة وها أنا أعود بها من دون أن أحصل على إجابات وافية عليها .

حملت معي مثلاً سؤالاً أوحت به إشارة في ورقة الصديق طارق البشري معناها أنه في الثورات raquo;تتحول قوى اجتماعية ودينية إلى قوى سياسية تحاول الوصول إلى السلطةlaquo; . هذا بالفعل ما حدث في ثورة مصر ويحدث في سوريا وحدث بشكل مذهل في ليبيا . توجد في ما يبدو علاقة ارتباط بين الحالة الثورية بكل ما يحيط بها من عدم استقرار وغياب نسبي للمؤسسات وسيولة ايديولوجية وبين نزوح قوى وجماعات من فضائها الديني الدعوي والاجتماعي إلى فضاء السياسة والسلطة . تمنيت لو أن النقاش في الندوة تعرض للظروف التي تشجع على النزوح، وما إذا كان انقضاء هذه الظروف يعني أو يمهد لاحتمال عودة القوى النازحة من الفضاء السياسي الذي احتلته خلال الثورة إلى فضاءاتها الأصلية .

يذكر البعض منا ولا شك أنه في حالة سابقة لعبت القوى الخارجية دوراً مؤثراً في دعم النزوح واستقرار القوى الجديدة كقوى سياسية . حدث هذا خلال عهود المد القومي حين قامت دول وأحزاب في الإقليم بدور مشهود في تمكين القوى القومية للاستيلاء على السلطة في أكثر من دولة عربية .

من ناحية أخرى، يبدو أننا نقلل أحياناً من شأن raquo;اللحظة الفارقةlaquo; في تحول قوى وجماعات من العمل الاجتماعي إلى العمل السياسي بهدف الوصول إلى السلطة السياسية . لدينا في معظم الثورات أمثلة بارزة على أهمية هذه raquo;اللحظة الفارقةlaquo; ابتداء من لحظة الهزيمة العسكرية إلى لحظة سقوط نظام مستبد، إلى لحظة اعتلاء شخصية كاريزمية ودينية لمسرح ملتهب بالأحداث .

لا يخفي بعض المهتمين بأمر الدين السياسي، أو علاقة الدين بالدولة، ترددهم في مناقشة ما يتعلق بدور المال الأجنبي في دعم عمليات التحول من الدين إلى السياسة . قال أحدهم ذات مرة إن المال إذا انتقل من دولة إلى أخرى لدعم الدعوة الدينية فهذا أمر لا يخل بسيادة الدولة الخارج منها المال ولا الدولة الداخل إليها المال . ويستطرد قائلاً: إنه بما أن الإسلام دين وسياسة يصبح منطقياً أن المال الأجنبي الذي يدعم الدور السياسي للدين يخضع للمبدأ السائد حالياً في القانون الدولي المعاصر والمتعلق بالحق في التدخل لأسباب إنسانية . وبالتالي، وحسب هذا المنطق، فإن التدخل من الخارج بالمال لدعم قوى إسلامية تسعى للعمل بالسياسة لا يهدد سيادة الدولة المستقبلة للمال .

هنا تثور أيضاً قضية الاستقواء بالخارج، فرجل السياسة raquo;الليبرالي الاتجاهlaquo; إذا استقوى بدولة غربية، أوروبية كانت أم أمريكية، يجري على الفور اتهامه بالخيانة، وإذا استقوى رجل السياسة raquo;الإسلامي التوجهlaquo; بدولة إسلامية أو عربية، لا أحد يتهمه بخيانة الوطن . أسئلة عدة حملتها معي من القاهرة إلى حوار الدين والدولة في تونس، وعدت بها وبأخرى مضافة إليها من دون إجابات شافية .