حازم صاغيّة


لمن لا يزال ينوي laquo;تحرير فلسطين من النهر إلى البحرraquo;، يبدو كلام الرئيس محمود عبّاس عن صفد وعدم الإقامة فيها جريمة عظمى. ذاك أنّ فلسطين التاريخيّة كلّها laquo;لناraquo;، أمّا العائدون إليها فسوف يقيمون في أيّ مكان يختارونه منها. وهذا مشروع للتنفيذ laquo;الآن، الآن، وليس غداًraquo;.

لهؤلاء لا تشكّل إسرائيل، بقوّتها وترسانتها النوويّة وصلتها العضويّة بالعالم الغربيّ والإقرار الكونيّ بوجودها، سوى تفصيل عابر.

أمّا الذين يقولون بمبدأ الدولتين الإسرائيليّة والفلسطينيّة، فيعرفون أنّ عبّاس لم يخرج كثيراً عن خطّ يمتدّ من إعلان منظّمة التحرير الفلسطينيّة laquo;النقاط العشرraquo; أو laquo;البرنامج المرحليّraquo; أواسط السبعينات ليجد تتويجه في مدريد 1991 وخصوصاً في أوسلو 1993. فإذا صحّ استنتاج التخلّي عن laquo;حقّ العودةraquo; من عبارة عبّاس، فهذا لا يعدو كونه خطأً تكتيكيّاً صرفاً لأنّ موقفاً كهذا يستحقّ أن يُعلن في سياق التفاوض والأخذ والردّ، لا أن يُقدّم كما لو أنّه هدية مجّانيّة ومسبقة.

أبعد من ذلك وأهمّ أنّ laquo;حقّ العودةraquo; لا يستوي مع قيام الدولتين. وهذا إذا كان صحيحاً مبدئيّاً، خصوصاً بالنظر إلى التوازنات السكّانيّة، فإنّ صحّته تتعاظم اليوم: ففيما تتبدّى منطقة الشرق الأوسط أدياناً ومذاهب وجماعات تخاف واحدتها الأخرى، وتفكّر واحدتها بالانفصال عن الأخرى، يلزمنا الكثير من السذاجة كي نقتنع بأنّ يهود إسرائيل سيقبلون بـraquo;عودةraquo; ما بين 5 و6 ملايين فلسطينيّ، عربيّ ومسلم، للعيش في ربوعهم. هذا وهم محض وظيفته الوحيدة إحراج فكرة الدولتين تمهيداً لإنهائها، خصوصاً حين تترافق الدعوة إلى laquo;حقّ العودةraquo; مع التهديد بالتحوّلات العدديّة والديموغرافيّة لصالح العرب.

فمنطقةٌ تعجز عن حلّ مشكلة كركوك، ما بين تعريب وتكريد وتتريك، تبدو فيها مسألة عودة الفلسطينيّين إلى فلسطين الـ1948 أقرب إلى براءة مسكونة بكثير من الشيطانيّة التي لا تريد أيّ سلام ولا تريد أيّة نهاية لعذاب الفلسطينيّين. وهذا مع الاحتفاظ بالحقّ الكامل في التشكيك برغبة فلسطينيّي الـ1948 وذريّتهم في laquo;العودةraquo; إلى مكان لا تربطهم به إلاّ الأغاني المتناقصة العدد. فهؤلاء باتوا سوريّين ولبنانيّين وأردنيّين أكثر كثيراً ممّا هم فلسطينيّون، اللهمّ إلاّ إذا كان هناك جوهر فلسطينيّ لا يحول ولا يزول ولا يتغيّر ولا تسري عليه معايير الحياة والتاريخ، وهذا طبعاً وهم آخر.

فالفلسطينيّ الذي يرسمه البعض على صورة كائن ما إن يفتح عينيه صباحاً حتّى يبدأ التفكير بالتحرير والعودة كائنٌ مُتخيّل غير موجود. أمّا الموجود في الواقع فإنسان يفكّر في شؤون عيشه وحياته وعمله وحمله جواز سفر وتعليمه أبناءه.

وأغلب الظنّ أنّ محمود عبّاس كان شجاعاً في إعلانه عن أسطوريّة الأساطير. فهو يعرف أكثر منّا جميعاً كم أنّ الفلسطينيّين ضعفاء، ويعرف أنّ انشقاق قطاع غزّة عن الضفّة الغربيّة أكثر كثيراً من سوء فهم laquo;أخويّraquo; بين حركتي laquo;فتحraquo; وraquo;حماسraquo;. فوق هذا، وبعدما كان العالم مشغولاً عن الهمّ الفلسطينيّ، بات العرب أنفسهم مشغولين عنه بهمومهم المحلّيّة والوطنيّة التي تستدعي طاقات جبّارة لمعالجتها. وفي هذه الغضون تزداد إسرائيل صلفاً وتطرّفاً وغطرسة، هي التي لا يمكن الرهان على أيّ شيء إطلاقاً من دون مرونتها واستعدادها للمساومة.

أمّا الذين لا زالوا يريدون laquo;تحرير فلسطين من النهر إلى البحرraquo;، فيعرف عبّاس، ونعرف، أنّهم لا يملكون لهذا الغرض إلاّ طائرة أيّوب. وما أدراك ما طائرة أيّوب (المصنّعة طبعاً في إيران!).