غسان الإمام

مُنَح الصلح أغزر آل الصلح فكرا. وأقلهم حظا. نظّر. وفكر. فانتظر. وانتظر. فما وصل التكليف بالترئيس. فهجا laquo;المارونية السياسيةraquo;. ودافع بحرارة عن laquo;العروبية اللبنانيةraquo;. عَبَر الثمانين فآثر الاعتزال. laquo;تمورنتraquo; علياء الصلح (ابنة رياض). فخالفت تراث أبيها العروبي. لو أن لبنان يرئس النسوان، لكانت هي جديرة برئاسة الحكومة. كانت أكثر شجاعة من مُنَح. ثم اعتزلت مثله. فماتت كأبيها قبل الأوان.

منح آل الصلح لبنان أربعة رؤساء حكومات: رياض سامي. تقي بك الذي كان يعاتبني، عندما قلت إنه آخر طربوش سني في لبنان. ثم رشيد القاضي الذي توزر. فترأس. لم يبال بالصعاليك والطرابيش. فوصفه الرئيس سليمان فرنجية (الجد) بـlaquo;النمرودraquo;. يعترف رشيد بأنه ظل laquo;نمروداraquo; طوال حياته في السياسة. لكن في البيت فهو إنسان laquo;وديعraquo;. ناصري صامت.

قضى تقي بك حياته السياسية كلها تحت طربوش الانتظار. انتظر هو الآخر مرسوم التكليف. فإذا لم يأت مع التغيير الحكومي، دخل غرفة الإنعاش. يصحو من الصدمة. فَيُنقِّل فؤاده بين الرؤساء الموارنة، حيثما شاء له الهوى، على رأي المخضرم الراحل لويس الحاج رئيس تحرير laquo;النهارraquo;.

في ربع الساعة الأخير من القرن العشرين، احتل سنة عصاميون آتون من كوكب القرية الإلكترونية سرايا السنة الحكومي. لكن نسيت أنا عمر كرامي الذي زاحم هؤلاء بأرستقراطية آل كرامي laquo;أفنديةraquo; طرابلس. وانكسر مرتين. فقد دوخته دواليب الفقراء المشتعلة في الشارع. فما صبر على المكروه، كما فعل أخوه الراحل laquo;الأفنديraquo; رشيد. طارت شعبية laquo;الأفنديةraquo;. احتلتها التنظيمات التكفيرية والجهادية (السنية). فاحتمى عمر بسوريا الأسد. وما زال.

نجيب ميقاتي laquo;أفنديraquo; آخر من طرابلس. عصامي. ملياردير الإنترنت والهاتف المحمول. هو الآخر وصل. لكن محمولا على كتفي حسن حزب الله. وإيران. شكل له بشار حكومته. فخاصمته طائفته. ميقاتي مدافع صنديد عن الأسد: laquo;علاقتي ببشار شرف ليraquo;. لكنه لم يحظ بشرف المصاهرة عندما كان بشار يبحث عن زوجة سنية.

أن تستقيل. أو لا تستقيل. هذه هي مشكلة ميقاتي. أن تكون. أو لا تكون. على كرسي السرايا، قرر أن لا يستقيل. على كرسي الاعتراف. نسي أنه قال يوما: عندما أشعر بأن الناس أصبحوا يرفضونني.. سأبتعد. لم يبتعد الحاج ميقاتي. فحاصره laquo;الآذاريونraquo; في البيت والسرايا.

فؤاد السنيورة حامل أختام آل الحريري. يتكلم بنعومة ويحمل هراوة غليظة: لا حوار على مائدة الرئيس ميشال سليمان، قبل استقالة الحاج ميقاتي. شكا السنيورة من الساسة. فغدا واحدا منهم. شكل حكومة وفاق وطني. فحاصرته شيعة حزب الله بـlaquo;الأراكيلraquo;.

عذب الوفاق الكاذب السنيورة. وعذبني السنيورة عن غير قصد. فقد قلت يوما للراحل الحريري: laquo;إنك تكثر من المستشارينraquo;. فرد علي معاتبا: laquo;هل تقصد السنيورة؟raquo; قلت مستدركا: laquo;لم يخطر في بالي يوما أن السنيورة مستشار سوءraquo;.

مضى أبو بهاء في عتبه: laquo;إذا كنت تقصد السنيورة؟ فهو موضع ثقتي. السنيورة يدير مشاريع لي بقيمة ثلاثة مليارات دولارraquo;.

سار السنيورة والحريري، في الاقتصاد، على مبادئ جون مينار كينيز عبقري الاقتصاد الذي كان ينصح وزراء الخزانة بعدم التقشف: laquo;لا تخافوا من عجز الميزانيةraquo;. الاستدانة والإنفاق ينعشان الاقتصاد. والإنتاج. وفرص العمل للشباب. ظل السنيورة وزير الخزانة في حكومات الراحل الحريري. وما زال يدافع عن نفسه: laquo;لا توجد دولة في العالم وزير ماليتها رجل محبوبraquo;.

برحيل الحريري الأب. وغيبة الحريري الابن، صار السنيورة laquo;حامل الهوىraquo;. وحامل الهوى تَعِبُ. فقد خَفَّه الطرب. السنيورة صوته جميل. يعالج داء السياسة بهواية الغناء. ويخوض مع تيار laquo;المستقبلraquo; وlaquo;14 آذارraquo; أصعب معارك حياته laquo;الصوتيةraquo; الصاخبة.

كان رفيق الحريري مشروعا سياسيا/ اقتصاديا ضخما. كان مقاول مشاريع خدمات ضخمة. عندما ترأس الحكومة في أوائل التسعينات، نفذ مشاريع بنى أساسية كبيرة ضايقت laquo;حزب اللهraquo;. أعاد بناء قلب بيروت المدمر، فرد الثقة إلى بيروت السنية والمسيحية. وعندما رحل كرمته بيروت بدفنه في حضن المدنية الصغيرة التي بناها.

بنى الحريري زعامة شعبية. هي الأولى من نوعها منذ رياض الصلح. ولأنه صاحب مشروع، فقد ألح على الاحتفاظ برئاسة الحكومة ليبني. ويعمر. فناصبه الساسة العداء. أنشأ تيارا شعبيا، كنت أود أن يكون حزبا مفتوحا لكل الطوائف.

لم يغفر بشار وحزب الله لزعيم سني، أن يكون على هذا المستوى من الانتشار في الداخل. والنفوذ الدولي في الخارج. كان الحريري وفيا لسوريا. كان وزير خارجيتها الحقيقي أكثر مما كان صديقه خدام أو الشرع. لكن ماذا يفعل ببشار حاقد. وبنظام غادر. عديم الوفاء؟

هل كان سليم الحص، على مستوى أخلاقيته السياسية الرفيعة، في عدائه لرفيق الحريري؟ أومن بأن الحص رجل مستقيم. من عائلة laquo;الدوغريraquo;. أتى إلى السياسة من المصارف. ولم يكن صاحب مصرف. اختلف مع الرؤساء الموارنة. بمن فيهم الرئيس إلياس سركيس الذي أتى به معه من المصرف المركزي.

دور الحص السياسي لم يقل عن دور الحريري. لكنه اختلف معه في السياسة والاقتصاد. ظل الحص جاهزا لرئاسة الحكومة، كلما تضايقت سوريا الأسد من الحكومات الحريرية. وظل الحص من أنصار التقشف وعدم الإنفاق. فضايق اللبنانيين الذين ينفقون ما في الجيب، قبل أن يأتي ما في الغيب. فرشحوه رئيسا لسويسرا أو للسويد. وليس للبنان.

راهن الحص على سوريا الأسد. كان حليفا. وليس تابعا. أعتقد أن نزاهته السياسية هي وليدة نباتيته. لم يأكل لحوم البشر والحيوان. رفض إعدام المجرمين المحكومين قضائيا. كان وفيا لزوجته المارونية التي غادرته منذ 22 سنة. وتركته وحيدا مع ابنتهما وداد. وببغاء. وعصافير. وهرة. وكلبين. اعتزل الحريري. فقد أرهقه مرض الربو في عامه الثالث بعد الثمانين.

عاشت سنة لبنان تعددية ديمقراطية تنافسية. فيما عادت الطائفة الشيعية إلى شرنقة خانقة. اختفى فيها كل صوت شيعي سياسي. فكري. ثقافي. باستثناء صوت نبيه بري: laquo;أردنا أن نحزب الطوائف. فإذا بنا نطيّف الأحزاب!raquo;.

السنة ملح لبنان. لم تحارب. هادنت. لكن لم تسالم. تسامحت. تساهلت مع نظام سوري طائفي. فما كان وفيا. اغتال دورها. واغتال زعماءها. وكان كما قال الشاعر القديم:

على أن قرب الدار ليس بنافعٍ

إذا كان من تهواه ليس بذي وُدّ