عبدالعزيز حمد العويشق


تبدو توقعات صندوق النقد الدولي للاقتصاد الخليجي قابلة للجدل لأنها مبنية على افتراضات مبالغ فيها، ولكن ما يقلق أكثر هو أن مقترحاته تتعارض مع احتياجات اقتصاد الخليج واهتمامات مواطنيه

يتوقع صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير أن تنتهي فترة الرخاء الحالية في دول مجلس التعاون بحلول عام 2017، ويحل محلها فترة تتحول فيها فوائض الميزانيات الحكومية والميزان التجاري إلى عجز متصاعد.
وأنا أكتب هذا المقال من واشنطن حيث أصدر الصندوق تقريره عن الأخطار التي تواجه الاقتصاد الخليجي. ومع أن التقرير (تحديات السياسة الاقتصادية والتوقعات المستقبلية لدول مجلس التعاون) مبني على افتراضات كثيرة وليس على حقائق مؤكدة، إلا أنه حظي باهتمام إعلامي لافت للنظر. وعادة ما تحظى مثل هذه التقارير المتشائمة باهتمام كبير، خاصة حين تكون عن دول يرى البعض أنها تدير سياستها الاقتصادية بثقة كبيرة تفوق ما تقضي به المعطيات الفعلية، غافلة عما قد يخبئه المستقبل من مفاجآت.
وعلى الرغم من المآخذ الكثيرة على تقرير الصندوق، كما سأوضح لاحقا، إلا أنه جدير بقراءة متأنية، وذلك ليس فقط كون التقرير صادرا عن الصندوق وبالتالي سيحظى باهتمام صناع القرار على المستويين المحلي والدولي، بل لأن من الضروري أخذ تحذيرات الصندوق بعين الاعتبار، وإن كانت مبنية على افتراض أسوأ الاحتمالات. ولكن الأكثر أهمية هو مناقشة توصيات الصندوق للتعامل مع احتمالات انخفاض دخل دول المجلس من النفط خلال السنوات الخمس المقبلة، لأن بعض هذه التوصيات قد تؤدي إلى عكس المطلوب.
ويُسلّم الصندوق بأن دول مجلس التعاون تتمتع بمعدلات عالية من النمو الاقتصادي نتيجة quot;ارتفاع أسعار البترول، وزيادة الإنفاق الحكومي، وانخفاض أسعار الفائدة.quot;. ويُسلّم كذلك بأن فوائض الميزانية الحكومية والحساب التجاري فيها كبيرة، وأن معدلات التضخم منخفضة، مما يوفر بيئة مناسبة لاستمرار النمو الاقتصادي فيها.
فما هي المشكلة إذن؟ المشكلة في رأي الصندوق هي أن دول المجلس تظل معتمدة على استخراج النفط والغاز، ومع زيادة الإنفاق الحكومي مؤخرا، فإن هذا قد جعلها أكثر عرضة للتقلبات. فالصندوق يعتقد أن زيادة الدخل النفطي في السنوات الأخيرة قد شجّع على زيادة الإنفاق الحكومي بشكل غير مسبوق، اعتمادا على quot;افتراضات غير واقعيةquot; بشأن مستقبل أسعار النفط. وهذا التفاؤل بشأن مستقبل الأسعار جعل دول المجلس أكثر اعتمادا على النفط مما ينبغي.
وسبب تشاؤم صندوق النقد الدولي هو أنه يرى أن دول المجلس قد أصبحت أكثر عرضة الآن لتداعيات التراجع الاقتصادي العالمي، وأن هذا الركود سيؤدي إلى انخفاض الطلب العالمي على البترول وبالتالي تخفيض سعره بشكل سريع، في تكرار لما حدث في عام 2009.
ومعروف أن دول المجلس استطاعت أن تسترد عافيتها الاقتصادية بسرعة بعد أزمة 2009، وحافظت على معدلات نمو صحية، وبلغت فوائض ميزانياتها الحكومية نحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011، وفوائض الموازين التجارية نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي! ويتوقع لها أن تستمر على هذا النحو خلال عام 2012 على الأقل.
ولكن هذه الفوائض في رأيه قد تتبخر بسرعة فيما لو انخفضت أسعار النفط بشكل حادّ.
فما هي أسباب هذا التشاؤم. يذكر تقرير الصندوق سببين. الأول هو الارتفاع السريع في الإنفاق الحكومي، الذي بلغ نحو 20% خلال عام 2011. والثاني يعود إلى توقعات بأن الطلب على النفط سينخفض، وتنخفض معه الأسعار، خلال عام 2013، بسبب الركود الاقتصادي المتوقع، وأن يستمر هذا الانخفاض إلى عام 2015 على الأقل. ولذلك، فإنه في حال استمرت معدلات الإنفاق عالية، في حين انخفض دخل النفط، فإن الفائض الحالي في الميزانية الحكومية سيتحول إلى عجز بحلول عام 2017.
ويمكن إيجاز الحلول التي يقترحها صندوق النقد الدولي في النقاط الخمس التالية:
- وقف الزيادة في الإنفاق الحكومي، خاصة على برامج لا يمكن تقليصها أو التراجع عنها مستقبلاً.
- تقليص الإنفاق على مشاريع البنية التحتية.
- تقوية المؤسسات والأطر المتعلقة بالميزانية الحكومية.
- تعزيز آليات الإشراف على الأسواق المالية وزيادة قدرتها على الإقراض.
- زيادة فرص العمل للمواطنين.
وهذه نصائح مفيدة، فيما عدا المقترحين الأول والثاني بتخفيض الإنفاق الحكومي والاستثمار في البنية التحتية، فالأخذ بهما، في رأيي، قد يؤدي إلى الانحسار الاقتصادي الذي نريد أن نتفاداه. ويجب التفكير بدلا من ذلك في زيادة موارد الدولة، والحفاظ عليها، وهي أمور ممكنة دون المساس بالمكتسبات الاقتصادية ورفاه المواطنين.
ولنأخذ الإنفاق الحكومي الجاري، الذي يقترح الصندوق الحد منه. فعلى العكس من ذلك يجب أن يستمر هذا الإنفاق، وربما يزيد، خاصة فيما يخص تطوير التعليم والتدريب وتأهيل القوى العاملة والصحة والإسكان والقضاء والضمان الاجتماعي، لأن هذا النوع من الإنفاق هو استثمار في المواطنين سيكون له مردود اقتصادي ملموس مستقبلا.
ومن المؤكد أننا سنختلف مع توصية الصندوق الثانية بتقليص الإنفاق على مشاريع البنية التحتية، مثل الطرق والقطارات والمطارات ومشاريع النقل الجماعي وتطوير المدن والقرى، لأن الاستثمار في هذه المشاريع هو مفتاح النمو الاقتصادي ورفاه المواطن في آن معا.
ومما يثير الدهشة حقا أن الصندوق قد أغفل مجالات عدة تمثل هدرا اقتصاديا كبيرا، ويمكن أن تحل المشكلة التي يتوقعها في عام 2017. وأولها تخفيض الاستهلاك المحلي لمشتقات البترول، والثاني الحد من تحويلات العمال الأجانب. إذ يمكن من خلال معالجة هاتين المشكلتين سد أي عجز ممكن في الميزانية، وأي عجز في الميزان التجاري، بل تحقيق فوائض ملموسة فيهما، وبالتالي لا نحتاج إلى تخفيض الإنفاق الحكومي أو تخفيض الاستثمار في البنية التحتية.
وباختصار، ومع التقدير لاهتمام صندوق النقد الدولي وقلقه على مستقبل الاقتصاد الخليجي وموازينه المالية والتجارية، فإن افتراضاته المتشائمة تبدو غير واقعية على المدى القصير على الأقل. ولكن ما يثير القلق أكثر هو نصيحته (بناء على تلك الافتراضات القابلة للجدل) بتقليص الإنفاق الحكومي وتخفيض الاستثمار في البنية التحتية، وهي نصيحة تتعارض مع احتياجات الاقتصاد الخليجي إلى النمو وتحسين البيئة الاقتصادية، ومع تطلعات المواطنين لتحسين مستوى معيشتهم وتأهيلهم للانخراط في النشاط الاقتصادي.