سمير عطا الله

عام 1945 هرب الحبيب بورقيبة من إيطاليا، حيث نفاه الفرنسيون، وجاء إلى القاهرة يحاول أن يدير منها معركة الاستقلال. في القاهرة تعرف إلى سيسل حوراني (شقيق المؤرخ ألبرت). وبعد عام عين حوراني مدير laquo;المكتب العربيraquo; في واشنطن. قرر بورقيبة السفر إلى العاصمة الأميركية لأنه كان يعتقد أن عقد صداقات مع بريطانيا وأميركا سوف يساعده على مستعمري تونس الفرنسيين.

في واشنطن كان معه عنوان واحد هو الفندق الذي يقوم فيه laquo;المكتب العربيraquo; فنزل فيه وكان ذلك يوم سبت، ولم يأت حوراني إلى المكتب إلا صباح الاثنين. وبعد قليل من وصوله دخلت عليه سكرتيرته قائلة: laquo;إن رجلا يرتدي البيجاما واقف في الخارج يطلب رؤيتكraquo;.

كان ذلك بورقيبة الذي وصل إلى نيويورك على متن باخرة شحن في رحلة استغرقت 20 يوما من أمواج الأطلسي. ومن نيويورك سافر إلى واشنطن بالقطار، من دون معطف، لأنه لم يكن يملك laquo;ثمن معطفraquo;. laquo;كان متعبا منهكا بلا حدودraquo;. لكنه بقي في واشنطن يسعى لمقابلة كل من استطاع. واقترض بعض المال من عامل طباعة تونسي يعيش في نيويورك.

بعد سنوات قليلة نجد بورقيبة المناضل في بيروت وصديقه سيسل حوراني أستاذا في الجامعة الأميركية بعد إغلاق laquo;المكتب العربيraquo; في واشنطن إثر صدور قرار تقسيم فلسطين. في بيروت كان لدى بورقيبة هم أول: أين يقع سوق الخضار؟

تعجب صديقه من السؤال. المناضل التونسي يسأل عن laquo;سوق النوريةraquo; البقعة الأكثر قذارة في بيروت. لكنه رافقه إلى هناك ليرى بورقيبة يهجم على بائع خضار أمامه عربة صغيرة ويأخذه بالأحضان: كيف حالك يا خليفة. لا بأس يا خليفة. وحشتنا يا خليفة. وكان خليفة هو التونسي الوحيد في المشرق، إضافة إلى سي الحبيب.

تلك لمحة يقدمها حوراني في مذكرات بالإنجليزية تحت عنوان laquo;ملحمة لم تنتهraquo;. وكنت أعرف من نقيب الصحافة الراحل عفيف الطيبي، الكثير عن أيام الزعيم التونسي في بيروت. لم أعرف أنه كان يتفقد بائع خضار في سوق laquo;النوريةraquo;. وربما لو كان حيا لما أشعل بائع خضار في laquo;سيدي بوعزيزيraquo; النار في نفسه وفي العالم العربي.