حازم صاغيّة


بقياس الكلام الخطابيّ الطائر على أجنحة الأطفال، يبدو مدهشاً أنّ laquo;الجماهير العربيّةraquo; لم تنتظم في تظاهرة حاشدة واحدة، في تلك المنطقة الممتدّة laquo;من المحيط إلى الخليجraquo;، تأييداً لغزّة وتضامناً معها في مأساتها. ليس هذا فحسب، إذ إنّنا لم نشهد تظاهرة واحدة من الصنف المذكور في الضفّة الغربيّة ذاتها، هذا علماً أنّ الأخيرة أظهرت، قبل أشهر قليلة فحسب، أنّها لا تزال تُجيد التظاهر دفاعاً عن تحسين أوضاعها المطلبيّة والاجتماعيّة.

ومن الصعب القول إنّ ظروف القمع تحول دون ذلك في بلدان عربيّة كثيرة في عدادها مصر وتونس. حتّى لبنان الذي تدبّ فيه الفوضى، ولا يكفّ عن كسر الأرقام القياسيّة في laquo;مقاومة إسرائيلraquo;، لم يشهد تظاهرة من النوع الموصوف (هذا من دون أن نستبعد تماماً قيام تظاهرة مذهبيّة توظّف الألم الغزّي لأغراض التنافس اللبنانيّ - اللبنانيّ).

والحال أنّ الضمور هذا ليس جديداً على من يريد أن يرى المستجدّات ويلاحظ التغيّرات التي تشقّ طريقها تحت أنوفنا. فمنذ أوائل الثمانينات، إبّان الغزو الإسرائيليّ للبنان، بدا أنّ ظاهرة laquo;الجماهير العربيّةraquo; شرعت تكفّ عن الاشتغال: فكما قيل مراراً، لم تقم تظاهرة معتبرة واحدة في الدنيا العربيّة تضامناً مع اللبنانيّين والفلسطينيّين، فيما تُرك للإسرائيليّين أن يطلقوا مثل تلك التظاهرة اليتيمة.

هكذا اختُتمت المرحلة الهائجة التي بدأت في الأربعينات، ثمّ فُتحت لها الأبواب العريضة مع الانقلاب الناصريّ في 1952، وخصوصاً مع حرب السويس في 1956 تتويجاً بالوحدة المصريّة ndash; السوريّة في 1958. ولئن عوّل البعض على الثورة الفلسطينيّة رافعةً، ما بعد ناصريّة، لـ laquo;الجماهير العربيّةraquo;، فإنّ الحربين الأهليّتين اللتين تلاحقتا في الأردن ولبنان رسمتا سقفاً تجمّعيّاً وأهليّاً منخفضاً لتلك الثورة.

ثمّ سارت في النهر مياه كثيرة إلى أن كان laquo;الربيع العربيّraquo;، فبدا معه أنّ العرب ينتقلون إلى اكتشاف دواخلهم الوطنيّة متعاملين مع هموم خاصّة ببلدانهم هي حكر عليها. وإذا جاز تشبيه ذاك التزامن في الثورات بحدث كبير سابق، صحّ تشبيهه جزئيّاً بتزامُن السقوط الذي شهدته أنظمة laquo;المعسكر الاشتراكيّraquo; إبّان 1989 ndash; 1991. يومها خاض الجميع، في أوروبا الوسطى والشرقيّة، معركة واحدة من أجل أن يفترقوا وألاّ يجمع بينهم laquo;معسكرraquo; واحد. لقد كان الأمر أشبه بقبلة الوداع.

يفاقم الصورة هذه ما راح يتكشّف عن تلك الدواخل العربيّة التي يُراد إصلاحها وتغييرها، وهو درجة التفتّت الأهليّ التي تجعل مهمّة تأسيس laquo;الشعبraquo; ذاته مهمّة ملحّة. فإذا كان laquo;أهلنا في بنغازيraquo; غير laquo;أهلنا في طرابلسraquo;، و laquo;أهلنا في درعاraquo; على موجة تغاير موجة laquo;أهلنا في دمشقraquo;، وraquo;أهلنا في النجفraquo; متناحرين مع laquo;أهلنا في تكريتraquo;، صار التضامن مع laquo;أهلنا في غزّةraquo; مطلباً كماليّاً لا يجد ما يسعفه إلاّ في ذاكرات تهرم وتشيخ.

وهذا، في عمومه، يلحّ على ضرورة توليد أفق وطنيّ وديموقراطيّ جديد، ينطلق من البلدان القائمة ويصبّ فيها، من دون أن يُخيفها بـ laquo;جماهير عربيّةraquo; لم يبق منها إلاّ بعبع الوهم ووهم البعبع. وغنيّ عن القول إنّ الشعب الفلسطينيّ الذي دفع أكبر أكلاف هذين البعبع والوهم، ولا يزال، سيكون مرشّحاً للإفادة من أفق جديد كهذا.