غسان الإمام

من الصعب أن يرتفع صوت للمنطق وللعقل، وسط هذا الجنون الملتهب بالعواطف النارية. والضوضاء الإعلامية. ورغبة المحتل في التعامل مع المحتلين بالقوة الدموية. فسرعان ما يوجه الاتهام للعقل بالخيانة. وللمنطق بالتسفيه. وللواقعية بالتخاذل والانهزامية.

مع ذلك، فواجب الإعلام العربي، أن يكون منطقيا. وواقعيا. وشجاعا، في التحليل. والتفسير. لا أن يكون النعامة التي تدفن رأسها في رمال حماس. وتختنق بدخان نتنياهو وإيهود باراك.

الفراغ السياسي يؤدي إلى الجمود. والجمود فرصة لملء هذا الفراغ باللعب بالنار. وإلهاب العواطف، وفق مصالح دول. وتنظيمات وزعامات، من دون أي حساب لحياة مئات الألوف من الأبرياء المحاصرين من هذا الجانب وذاك. الرهائن الأبرياء المنساقين دائما إلى المجازر.

وصول اليمين الديني والقومي المتطرف إلى الحكم في إسرائيل هو المسؤول عن هذا الفراغ. بنيامين نتنياهو المستعد للمساومة في التسعينات، غير نتنياهو laquo;الكذابraquo; - كما وصفه ساركوزي - المساير لأحزاب حكومته العنصرية في مواصلة الاستيطان، وفي إحراج سلطة محمود عباس في الرهان على حل سلمي بالتفاوض. بل ها هو أفيغدور ليبرمان وزير خارجية نتنياهو لا يستحي أمام العالم، في المطالبة بمحاصرة وتصفية عباس، كما حوصر. وصفي عرفات.

أميركا بوش وأوباما مسؤولة أيضا عن الفراغ السياسي والجمود. منح جورج بوش إسرائيل laquo;الحقraquo; في التصرف بأراضي الضفة، فيما منحت إدارة أوباما إسرائيل عشرة مليارات إضافية. و25 طائرة إف 15 و16، من أجل أن يوقف نتنياهو الاستيطان شهورا ثلاثة فقط! فهل يمكن أن يوصف laquo;سخاءraquo; دولة عظمى كأميركا، بأنه منطقي. وواقعي وعادل؟ ثم تتساءل أميركا لماذا تنهار سمعتها ومصداقيتها، أمام العرب العاجزين عن مواجهة إسرائيل مدججة متخمة بالأسلحة النووية والعادية؟

تعاقب إدارة أوباما سلطة محمود عباس laquo;المتمردةraquo; بمنحها المساعدة المالية الأميركية بالقطّارة. نقطة. وراء نقطة. وتطالب العرب بقطع الدعم عنه. وتسكت عن احتجاز نتنياهو أموال فلسطينيي الضفة وغزة التي يجبيها منهم لحسابهم.

بل يتحمل أوباما بصبر عجيب، صلافة نتنياهو في التعامل معه، وتأييده لمنافسه ميت رومني. وهو المطلوب منه، بعد تجديد ولايته، أن يدعم نضال ملايين السوريين للتخلص من نظام جائر، وأن يسعى إلى تسوية لإقامة دولتين، قبل أن تنتهي إسرائيل من قضم الأرض، فلا تبقى أرض للتفاوض والمساومة عليها.

هل يبدو أوباما منطقيا في مداراة أصوات يهود أميركا؟ يقول جريمي بن آمي رئيس اللوبي الأميركي اليهودي laquo;دجي - ستريتraquo; إن 80 في المائة من يهود أميركا يؤيدون قيام دولتين فلسطينية ويهودية. ويعارضون استيطان الضفة. ويحثون أوباما على التشجع والضغط على إسرائيل وحكومة نتنياهو. فمم يخاف أوباما. في موقفه المتردد والمتخاذل؟!

بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة، كنت من أوائل المطالبين بتحويل القطاع إلى لؤلؤة متوسطية مزدهرة بالاقتصاد. عامرة بالحياة. قلت إن الإعمار. وتحسين المستوى المعيش. واعتماد الثقافة والتربية أساسا للوعي السياسي والتطوير الاجتماعي. كل ذلك هو أيضا مقاومة فاعلة ضد الاحتلال.

مع الأسف، لم يحدث ذلك المنشود. وأُهملت عروض خليجية لتقديم منح للتنمية. وللاستثمار، بمليارات الدولارات. نعم، جرت في الضفة وغزة انتخابات حرة، لنيل تفويض بتحقيق تسوية سلمية. فازت حماس. تشكلت حكومة وحدة وطنية برئاسة laquo;الحماسي الغزاويraquo; إسماعيل هنية. فإذا بها تقود انقلابا على نفسها. فتقف على رأسها. ضد وعودها بالالتزام بالديمقراطية.

استولت حماس على السلطة في غزة، بعد سنة من الانتخابات (2007)، في اقتتال وطني شرس. ذهب ضحيته 161 غزيا و600 جريح. تبادل الحماسيون وlaquo;الفتحاويونraquo; إلقاء (الأسرى) مكتوفين من أعلى المباني.

حدث ما هو أشد مأسوية وخطرا. أدى التنظير اللاواقعي. والتحليل اللامنطقي، إلى تبني استراتيجية laquo;التحريرraquo; من النهر إلى البحر، انطلاقا من غزة المنهكة. المستنزفة. المحاصرة. تم تقويض التعددية السياسية. ذُبحت أسر laquo;فتحاويةraquo;. وآوت حماس خلايا وتنظيمات laquo;قاعدية. وجهاديةraquo;، فيما تقدمت آيديولوجيا تسييس الدين على قضية الوحدة الوطنية والمقاومة المشتركة.

وهكذا. تناقضت المقاومة مع الواقع الميداني البائس. انحازت حماس إلى مبدأ laquo;الممانعةraquo;. تحالفت مع إيران. آوت نفسها لدى نظام سوري مراوغ. أحبطت كل اتفاقات المصالحة مع السلطة الوطنية في الضفة التي تمت برعاية سعودية. قطرية. يمنية. مصرية. وتم اعتماد الصاروخ سلاحا للتحرير.

قتلت الصواريخ المنطلقة من غزة 15 إسرائيليا فقط. خلال 11 سنة. فيما قتل وجرح ألوف الفلسطينيين الغزِّيين الذين صوتوا انتخابيا لحماس. في العدوان الإسرائيلي الكبير (2008/ 2009)، قتل 1400 غزي معظمهم مدنيون. جرح خمسة آلاف بعضهم باتوا معاقين. دمرت مرارا وتكرارا البنى الأساسية، في الرد الهمجي بالطائرات، على الصواريخ التائهة.

في التجاذب مع مسعى إيران المحموم، لتمزيق العرب، استدارت laquo;حماسraquo; والتنظيمات المتشددة التي تحميها، نحو سيناء. للعبث بأمن مصر القومي، استغلالا للإهمال المشين الذي مارسته الأنظمة المصرية المتعاقبة لها، مع كون سيناء خط الدفاع الأول، لحماية مصر من الهجمة الصهيونية. وتم نشر الاعتقاد laquo;الجهاديraquo; وlaquo;التكفيريraquo; بين بدو وأعراب الصحراء، اعتمادا على ضعف مستوى وعيهم السياسي والثقافي.

كم تلعب المناورة السياسية بعواطف الشارع الشعبي! ثار الشارع المصري على laquo;حماسraquo; عندما قتلت التنظيمات laquo;الجهاديةraquo; المنطلقة من غزة 16 جنديا مصريا من حرس الحدود، وهم يتناولون لقيمات الإفطار في رمضان. استغل النظام المصري الإخواني الحادث، في إسقاط المجلس العسكري بتهمة الإهمال. بدلا من ذلك، شن النظام حملة عسكرية/ أمنية في سيناء لتأديب بدوها. وتطهيرها من laquo;مجاهديraquo; غزة.

ثم.. ثم توقفت الحملة، لماذا؟ لا أحد يعرف! أين نتيجة التحقيق في مصدر الهجوم على جنود الحدود؟ على مجزرة الجنود الذين قيل إنهم قتلوا في تدهور laquo;باص للشرطةraquo; في سيناء؟ عن الضباط المصريين laquo;الأسرىraquo; والمقتولين بسلاح laquo;الجهاديينraquo;؟ ما هي علاقة حماس غزة بكل ذلك؟ لا شيء. أبدا صمت مصري laquo;مدو. وصارخraquo;!

هذا الركام من المآسي. والمجازر الإسرائيلية المتكررة. وأخطاء حماس في المسؤولية، منذ احتكارها غزة.. هذا الركام يتشكل اليوم حائطا بكائيا للعرب، متعاطفا مع حماس، والناس الأبرياء في غزة.

نعم، انسحبت حماس متأخرة، من خداع وأضاليل laquo;الممانعةraquo; الإيرانية/ العلوية. لكن ما زالت laquo;الجهادraquo; قادرة على جر وتوريط حماس، في الائتمار بأمر إيران، لإطلاق حزمة صواريخ تسترا. وتغطية. وتخفيفا للضغط على نظام بشار المنهك في إطلاق صواريخه على السوريين لا على إسرائيل.

اكتفت صواريخ laquo;الجهادraquo; وlaquo;حماسraquo; بقتل ثلاثة إسرائيليين. فتكت صواريخ إيران وبشار بأربعين ألف سوري إلى الآن. فتكت غارات إسرائيل بـ55 فلسطينيا في غزة (إلى يوم الأمس الفائت). ودمرت مرة أخرى البنى الأساسية. عانق إسماعيل هنية وضيفه المصري هشام قنديل الصبي القتيل أمام العدسات. فاخر هنية بتلوث ثوبه الأبيض الناصع بدم الفتى.

كالعادة سارعت الدبلوماسية العربية لتوسل إسرائيل وحماس، لاستعادة laquo;الهدنةraquo; المفقودة. ولمناشدة أوباما وأوروبا منع الهجوم الإسرائيلي المدرع على غزة. وليس أبدا لمساءلة حماس، مجرد مساءلة، وليس محاسبة ومحاكمة، عن دم رهائنها أهل غزة. عن دم 1.4 مليون فلسطيني صوت معظمهم لها. وترفض السماح لهم بالذهاب إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى، لمعرفة رأيهم بها بعد التجربة المرة.

وها هو عباس يرتكب خطأ تقدير التوقيت المناسب للذهاب إلى الأمم المتحدة، من دون انتظار، لتصفية الحساب بين أوباما ونتنياهو.